جاء جعفر النميري رئيس السودان بين العام 1971-1985، إلى الإمارات ضيفاً على المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وكان الشيخ زايد كعادته في استقبال ضيوفه، كريماً سمحاً مضيافاً، وأقام لضيفه احتفالات واسعة ومتعددة، وخرجت جموع الناس مرحبة بضيف سموه، ومترجمة أصالة العربي في إكرام ضيفه.. ولسان حاله يقول:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
ومن بين هذه الحفلات مهرجان شعري اشترك فيه عدد من شعراء النبط والعربية في منطقة الخوانيج في دبي، حيث نزل الشيخ زايد مع ضيفه في قصر سموه في الخوانيج، وهنا برز الشاعر والأديب الإماراتي أحمد أمين المدني، بين الشعراء الذين اشتركوا في هذا المهرجان الترحيبي شامخاً كأنه علم في رأسه نار، بقصيدة استطاع لمعانها القوي أن يخفت بريق كل ما قيل من قصائد في تلك المناسبة وفي غيرها من المناسبات السابقة، وجاءت لتسجل لأحمد أمين المدني براعته الفائقة في انتهاز هذه المناسبة والإتيان بكلام منظوم غير عادي لفت إليه الأنظار، كشاعر لا يقارع ولا يجارى في الإمارات.
وكان استهلال القصيدة رائعاً ومشنفاً للآذان.. وراح شاعرنا مترنماً بصوت غنائي جميل:
شادٍ على الأيكِ بالأفراح غنانا
فأطرب الروض لا بل رنح البانا
قطوف شعري نشوان بسلسله
يطارح الورد نسرينا وريحانا
ماجت قوافيه في أسمى عواطفها
تبارك الشعر أنغاماً وأوزانا
نفضت منها على الأسحار لؤلؤة
حتى رأها الضحى فاخضل غيرانا
أصداؤه تعبرُ الآفاق هاتفة
أهلاً بنفح من السودان وافانا!
ويمضي شاعرنا، مشيراً إلى ترحيب الجماهير بضيف زايد، الذي هو ضيفهم هاتفين ومهللين..
والقوم بين هتوف باللقى ثمل
ومترع الروح حتى خيل سكرانا
مُباركين تهادوا في مواكبهم
من أرض زايد أفراداً وأقرانا
ليجتلوا طلعة من قائد لمعت
منه الشمائلُ ياقوتاً ومرجانا
ويواصل أحمد أمين ترحيبه بالضيف في ألفاظ يعلوها البديع من الكلام، وسلاسة في التعبير وصدق في المعنى:
يا جيرة النيل والتاريخ يجمعنا
على صعيد من الإسلام أخوانا
إن سالَ جرح لكم أنّت جوانحنا
حزناً، وذبنا لكم هماً وأحزانا
أحبُ شيءٍ إلينا أن نرى لكمُ
ذاك اللواء بنور الله مزدانا
خذوا من العهدِ ما يرضى الوفاءُ به
منَ الإخاء، ويرضي الله عرفانا
ويذكرني بيت أحمد أمين الجميل في التفاعل الوجداني بين العربي وأخيه، بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإذا أنّ بالعراق جريحٌ
لمس الشرق جنبه في عمانه
وينتقل الشاعر أحمد أمين إلى المضيف الكريم، إلى زايد، زايد المكرمات، ليسطر غرراً من بديع الكلام، ويسمعنا روائع من نغمه في قائدنا الكبير الشيخ زايد رحمه الله..
بنت الرمال، وكم فاضت مكارمها
حضارة لبني الإنسان قرآنا
رجالها رفعوا للعُرب ألويةً
وللعُلى قد سموا حباً وإيماناً
آل النهيّان من طابت شمائلهم
حتى حسبتُ النهى.. كان النهيّانا
ونلاحظ كيف بلغ الشاعر قمة عالية للوصول إلى البديع في البيت الأخير وفي ألفاظ توحي بالسهل الممتنع..
آل النهيّان من طابت شمائلهم
حتى حسبت النهى.. كان النهيّان!
ويروح شاعرنا يخاطب زايد، يخاطب أبا خليفة، وتزدحم أمامه الجوانب المضيئة في قيادة زايد ومكرماته.. فيناديه:
يا زايداً في سماء المجد مفخرةً
قد راحَ يغمرها مجداً وسلطانا
يشاركُ الشعب من ألطاف حكمته
عبر الليالي، أفراحاً وأحزانا
ضمت محبته الأشتات واتسعت
تحنو على الكل غفراناً وإحسانا
فلا رضى بسوى الخلاق معتصماً
ولا رأى لسوى الخلاق سلطانا
فيض من النور وافانا بموجته
فنضر النور أحداقاً وأجفانا
وكان رائدنا في كل مكرمة
ولا يزال، ولم يبرح، كما كانا
أعِد لدولتنا أمجادها فلقد
أرست ظباكم لها بالأمس أركانا
وإن تكن لكتاب المجد مأثرة
يكن لها زايدٌ بالنور عنوانا
أكبرت من زايدٍ روحاً له طمحت
تروم ما لا يرومُ الناس أعوانا
وما البطولة إلا أن تكون كما
يُريده الشعب لا حمداً وشكرانا
ولا تبالي إذا ما سرت منطلقاً
إلى المعالي، ولا ربحاً وخسرانا
وهكذا يمضي الشاعر في ضوء استلهاماته من قيادة بو خليفة، قيادة الخير:
أبا خليفة نال الشعب بغيته
لما طلعت على آفاق دنيانا
أبا خليفة ما أومت أكُفُّهُمُ
إلا إليك، لمن قد قاد مسعانا
أبا خليفة من يرجى سواك لها
إذا دجا الخطبُ أو ذو لوثة لانا
ولو أراد نجوم الأفق قافية
لذاب أروعها شعراً فأشجانا
والقصيدة طويلة، ولكنها تسيل عذوبة ورقة وتذكرنا بالمغفور له الشيخ زايد، وما له من مآثر وما تركه لنا من آثار وبصمات تدل على أن الشاعر أحمد أمين لم يقل إلا غيضاً من فيض في هذا القائد الكبير.