نعم. الكتاب مطلوب ومرغوب ومحبوب ولم ينقضِ أوانه بعد. والدليل تلك الحشود التي تتوجه إلى معرض الكتاب في القاهرة. تقطع طريقاً طويلاً إلى الموقع البعيد. تقف في الدور لشراء التذاكر وللتفتيش أمام البوابات، وتمشي الكيلومترات في الأروقة الحافلة بألف عنوان وعنوان، بل بآلاف العناوين. وهناك من يقول إن العائلات تقصد المعرض للنزهة، لا حباً بالقراءة. لكن من لا يبتهج وهو يطالع وجوه البنات والأولاد وهم يتصفحون الكتب العلمية، ويقرأ الالتماعة في عيني طفل أمام كتاب ملوّن؟ ما المانع من أن تكون المكتبة نزهة جميلة؟
يقولون أيضاً إننا شعوب لا تقرأ. ويأتون لك بأرقام عن نسبة الأمية وعن تسرّب التلاميذ من المدارس. هذه من مهمات الدول وواجبات الأسرة. وبيت يخلو من كتاب هو بيت مظلم حتى لو أضاءته الكهرباء. وما زال أغلبنا يحفظ بيت الشعر: «الأم مدرسة…»… ولا بد من مساعدتها لكي تبقى مدرسة. والأب كذلك. ورأيت في معرض القاهرة طفلاً دون العاشرة، يمسك بيد أبيه، يطوف به بين الرفوف، ويسأل الناشرين بصوت خفيض: «نجيب محفوظ؟». ولما التفتّ إلى الأب لاحظت أنه بصير. وتخيّلت منظرهما في بيت العائلة، والولد يقرأ لوالده روايات صاحب «نوبل».
تأخذ معارض الكتب صيتها من حسن تنظيمها، ومن سقف الحرية المتاح فيها، ومن مشاركة دور النشر، ومن نوع الندوات المصاحبة لها. لدينا اليوم موعد في كل عاصمة عربية. لكن معرض القاهرة ينفرد بأنه صار ملتقى الأدباء العرب من بلادنا والمَهاجر. يقصدونه دون انتظار لدعوة أو طنطنة. يذهبون لتلبية «ندّاهة» الكلمات. هذا مع الإقرار بأن القاهرة لم تعد وحدها تكتب، ولا بيروت وحدها تطبع، ولا بغداد وحدها تقرأ. وها هو معرض بغداد على الأبواب، ودور النشر المحلية واقفة على أقدام وسيقان. وقد ورد خبران سعيدان من العراق في الأيام الماضية؛ الأول من البصرة في الجنوب، والثاني من الموصل في الشمال.
في البصرة، ثغر العراق الذي كان بسّاماً، احتفلوا بسيدة تدعى عالية محمد باقر ومنحوها لقب «البطلة». وهي لم تخض معركة قتالية ولا تبارت في ساحات الرياضة. كانت أمينة للمكتبة العامة في المدينة، يوم دخلت جيوش المحتلين وسقطت الحكومة. ورغم انتشار الفوضى ونهب الممتلكات العامة، لم تهرب لتلزم دارها بل أهابت بأهل الحي لمساعدتها وقامت بنقل ثلاثين ألف كتاب إلى مطعم مجاور. حَمَتْ الحروف المضيئة من الحرائق والتبدد. وأن يجيء تكريم الست عالية متأخراً خير من ألا يأتي أبداً. وفي الحفل، قال الأديب البصري محمد خضير: «إن مطالع القرون تجعلنا أمام رؤيتين متضادتين؛ الأولى توجّهنا لبناء المكتبات وتشجيع الناس على المطالعة، والثانية تلهم مشعلي الحرائق بإعدام الكتب ومنع الناس من القراءة. الأولى رؤيا السلام والثانية رؤيا الحروب. وبينهما تلوح رموزٌ مكتبية تعمّر القلب بمواقفها الكريمة والشجاعة».
الخبر الثاني جاء قبل أيام من الموصل. المدينة التي نسف الجهلة منارتها الحدباء. وهو عن تنصيب الأب نجيب ميخائيل رئيساً جديداً لأساقفة المدينة. إن الرجل برتبة مطران. لكن مأثرته الحقيقية ليست في الصلاة والتعبّد، بل في أنه حمى مكتبة ثرية وعرّض نفسه للموت في سبيلها. وعلى مدى عدة ليال ليلاء، والدواعش على مشارف المدينة، نقل بسيارته كنوز مكتبة الآباء الدومينيكان إلى منطقة آمنة. أنقذ الكاهن الستيني المتخرج في معهد النفط في بغداد، مئات المخطوطات النادرة وكتباً تعود إلى القرن السادس عشر، من النار. إنه حب الحرف وهوى المعرفة الذي لا يضاهيه هوى.
جريدة الشرق الاوسط