كان البريد في الماضي على الخيل. وكان الأحباء، أو أبناء، أو أمهات، ينتظرون ساعي البريد في ساحات القرى علّه يحمل إليهم رسالة. أو أيضاً مجلة أو صحيفة يشتركون بها. والبعض كان متلهفاً لدرجة لا ينتظر معها وصول الساعي إلى الساحة، بل يخرج إلى ظاهر القرية لملاقاته.
كان تشارلز ديكنز ينشر رواياته في طبعات صغيرة مسلسلة. وكان معظم الإنجليز يخرجون على عربات الخيل إلى ظاهر القرى والبلدات أفواجاً لشراء نسخهم. فالحياة أكثر متعة مع حكايات هذا الساحر. وآخرون كانوا يخرجون بالآلاف لسماعه يقرأ بنفسه تلك الروايات. في روسيا أيضاً كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الفصل التالي من أعمال تولستوي أو دوستويفسكي، ولكن القارئ الروسي مثل كاتبه، كان يهوى الانقباض والكآبة. أما ديكنز الذي عاش طفولة مريرة العذاب، فراح يمتع الإنجليز بالسخرية التي يحبونها. لن يشبعوا من ذلك، ولن يشبع هو أيضاً. ففيما كانت روسيا غارقة في الكآبة بسبب فقرها، كانت بريطانيا شبعى، يأتيها الدخل من أنحاء الإمبراطورية. ولم يشأ أن يعكّر على مواطنيه مزاج الكفاية، فأبعد الوجوم حتى عن أحلك اللحظات. وبعدما كان قرّاؤه حول العالم من الإنجليز، ترجمت كتبه إلى لغات كثيرة. ووقف ألوف الأميركيين في البرد والعراء ينتظرون انفتاح القاعة التي سيقرأ فيها شيئاً من أعماله.
وفي النهاية، لم تعد قاعات لندن ونيويورك تتسع للحضور، فأخليت من أجل ذلك الكنائس. ولا بد أن نتذكر دوماً أنه لم تكن في تلك الأيام مكبرات صوت وكهرباء. وعلى الحاضرين أن يحضروا في عربات الخيل، النشطة أو الهرمة، مثل عربات البريد.
خرج الإنجليز في أثر ساحرين من سحرة اللغة: شاعر الإمبراطورية شكسبير وناثرها الجميل هذا. وما يزالون. ولم يعد أحد يحصي، أو يعد، كم من ملايين النسخ تطبع من تلك الأعمال التي كانت تحملها عربات الخيول الهرمة ذات يوم. لم يتوقف ديكنز طويلاً عند طفولته البائسة، بل جعل همه إسعاد الأطفال المشردين والفقراء. وهو يفعل ذلك في هدوء، وليس بالثورة كما دعا أقرانه في فرنسا وروسيا. إنه مصلح من ضمن النظام وصاحب قضية كبرى، ولكن من دون الخروج على القيَم التي ورثها.
جاء ديكنز من أسفل طبقات العالم التحتي في لندن. وحوَّل كل شيء إلى فن وجمال ودعابة. صفق للفقراء من دون أن يهاجم الأغنياء. وأضحك الجميع في صف واحد. وأخذهم إلى عالم متخيَّل ممتع، تتحدث فيه الأجراس وتغني المواقد في جوقة واحدة. ومن ذلك العالم البائس، لملم التفاصيل الصغيرة ومسحها ولمّعها وصنع منها عالماً تخرج إليه الناس على العربات الهرمة.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط