جدارة السؤال تأتي من مركزية الموهبة في حياة الكاتب وضآلة أي إضافات تأتي لها من خارجها ما جعل المتشبثين باتحادات الكتاب والباحثين بشراسة عن مواقع قيادية فيها هم في غالبيتهم الساحقة من أقل الكتاب موهبة أي من أقلهم اتكاءً على إبداعهم الشخصي وهم تبعاً لذلك أكثرهم سعياً للاستحواذ على فرصهم في تدعيم تجربتهم الإبداعية بعوامل من خارجها.
أن يتبوأ كاتب ما مقعداً في الهيئة القيادية لاتحاد الكتاب يعني أن يكون «في الصورة» حاضراً في المؤتمرات والمهرجانات الأدبية، وأن يحظى بعلاقات مع نظرائه في الاتحادات الأخرى فيتبادل معهم الدعوات وفرص النشر والفوز بالجوائز الأدبية وأيضاً فرصة الحضور في حالات الترجمة إلى اللغات الأخرى.
ذلك هو الشأن العام للاتحادات العربية، على أنه يأخذ في الحالة الفلسطينية بعداً أكثر فداحة بسبب الظروف والتفاصيل الخاصة التي تأسس فيها «الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين» في أيلول (سبتمبر) 1972 في صورة ولادة مشوَهة جعلت أي محاولة لتقويمه وإصلاح ما فيه من خلل، أمراً بالغ الصعوبة إن لم نقل مستحيلاً بسبب موانع عدة: تأسس الاتحاد على يد القيادة الفلسطينية بفصائلها المختلفة في صورة مباشرة ما جعل التأسيس يستنسخ تجربة «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية» والتي قامت على نظام «الكوتا» لتمثيل الجميع. جدل تمثيل الفصائل الفلسطينية في «الأمانة العامة» للاتحاد كان دائماً يحصل بين القيادات المختلفة بعيداً من الكتاب أنفسهم الذين يفترض أن الاتحاد يخصهم دون غيرهم، فيما هم في الواقع آخر من يعلم. العقود التي عاشها الاتحاد جعلت قائمة من يدخلون الأمانة العامة تكاد لا تتغير إذ تدور في حيز ضيق تحتله مجموعة من أسماء محدّدة يمثل كل واحد فصيلاً وما يتبقى للمستقلين الذين تقوم قيادة المنظمة بتسمية من يروقون لها منهم فتختار من صفوفهم من يتبعون لها.
الهيمنة الفصائلية المطلقة جعلت مؤتمرات الاتحاد «همروجة» شكلية لا تقدم ولا تؤخر وقد كان فاضحاً وكاريكاتورياً جدل أعضاء المؤتمر في الجزائر عام 1987 لساعات طويلة على البيان السياسي وهو الجدل الذي احتدم بدرجة كانت تهدد بفشل المؤتمر حتى تفاجأ المؤتمرون باتفاق قيادات الفصائل على نص البيان فانتقل أعضاء المؤتمر بقدرة قادر من حالة الاختلاف الكامل إلى الموافقة الكاملة على البيان وبالتصفيق!
لا شيء هنا يدعو للاستغراب أو الدهشة فالتأسيس الأول للاتحاد قام على اشتراطات لا علاقة لها بالكتابة من قريب أو بعيد ما سمح بانتساب أعداد كبرى من غير الكتاب ما سمح بالضرورة لبعضهم بالوصول إلى «الأمانة العامة» أي الهيئة القيادية العليا وهي مسألة أصبحت بعد ذلك «تقليدا» راسخا ومستمرا : في مؤتمر الاتحاد الثالث (آذار/ مارس 1980) أجريت انتخابات الأمانة العامة على قائمة «الوحدة الوطنية» التي ضمت ممثلي الفصائل تحت رقابة عدسات كاميرات التصوير التي كانت تلتقط «زوم» للقائمة التي يضعها كل عضو في ورقته ناهيك بأن كتابة كلمة قائمة الوحدة الوطنية لا تتطلب وقتاً كما تتطلب كتابة أسماء خمسة عشر عضواً عند من لا يريد انتخاب القائمة. كانت انتخابات تلك الدورة فضيحة مدوية استنكرها عدد قليل من المبدعين ولكنها لم تؤثر في «تقاليد» الاتحاد السيئة قيد أنملة.
مع ذلك فهذه التقاليد السيئة خلقت بدورها ساحة ثقافية تزدحم بالأوهام فالكاتب الذي وصل إلى مقعده في الأمانة العامة بفضل كوتا الفصائل سرعان ما يتناسى ذلك ويبدأ في اقناع نفسه أولا والآخرين بعد ذلك بأن من هم في الأمانة العامة هم الكتاب الأهم والأكثر موهبة. لم يكن مصادفة أو من دون مغزى أن بعض أولئك الذين حجزوا مقاعد دائمة في الأمانة العامة لم تستطع كتاباتهم إقناع الشاعر الراحل محمود درويش بالنشر لهم في مجلته الشهيرة «الكرمل» على رغم زمالتهم معهم في تلك الأمانة وظل أميناً لمقاييسه الفنية واشتراطاته الإبداعية للنشر ما أورثه كثيرا من غضب بعضهم وتذمرهم.
يقال عادة أن الطابع السياسي لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطيني هو بالضرورة الغالب وليس الطابع النقابي بحكم الحالة الفلسطينية ذاتها، ومع ذلك لم يقتصر الأمر على اعتبار الشأن النقابي بل وحتى الثقافي قليل الأهمية بل يمكننا الجزم أنه ظل غائبا في صورة شبه تامة: من مهمات اتحاد للكتاب أن يعتني بنشر مؤلفات المبدعين الشباب وأن يمنحهم فرص المشاركة في الندوات والمهرجانات الأدبية لكن الحال لم يكن كذلك فالمشاركة كانت وقفا على مجموعة محددة من الأسماء لا تتغير إلا نادراً وهي تبدأ بأعضاء الأمانة العامة ذاتهم ومن ثم يأتي بعدهم المقربون والسائرون في فلكهم . تزداد فداحة الحالة بسبب طبيعة السياسة التي انتهجتها قيادة المنظمة في تمويل الاتحاد والصرف على نشاطاته فلم يحدث مرة أن وافقت القيادة على تخصيص ميزانية خاصة للاتحاد بل حرصت طيلة الوقت على صرف فواتير الأمانة العامة ما يعني عبث التفكير في برنامج ثقافي أو خطة للنشر . ذلك وغيره جعل الاتحاد يفشل خلال أربعة عقود طويلة في التحول إلى مؤسسة ذات تقاليد راسخة يمكنها ممارسة حياتها ودورة تجددها وانتظامها بسلاسة ويسر وبعيداً من الأزمات والانقسامات ومن يعود اليوم لمراجعة «تراث» الاتحاد وما حققه للثقافة خلال تلك العقود لن يعثر على شيء يعتدُ به بل سيلحظ من دون عناء أن ما تحقق من إنجازات أدبية ذات قيمة تحقق بعيداً من مكاتب الاتحاد وهيئاته القيادية التي اكتفت – غالباً – بالسفر والتنقل بين العواصم ولم تعر انتباهاً لأعضاء جمعيتها العمومية وما يعانونه من مصاعب العيش وبعضها بل أكثرها بسبب عدم انسجامهم مع القيادة الرسمية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية.
شاءت القيادة الفلسطينية اتحاداً للكتاب يكون «قاعدة من قواعد المنظمة» ضمن تفسيرها الالحاقي لهذا الشعار واللافت أن بعض من عارضوا تلك القيادة في السياسة انطلقوا هم أيضا من الفهم نفسه: راجت في أوساط الاتحاد طوال عقود اشتراطات التوافق السياسي الكامل من أجل وحدة الاتحاد وانطلق أصحاب هذه الدعوة من قناعة مضمرة تعتبر الاتحاد حزباً سياسياً موحد الرأي، وليس مؤسسة نقابية تتفاعل داخلها تيارات وآراء متنوعة ولهذا ظل الاتحاد قابلاً للانقسام عند أي منعطف حاد من منعطفات السياسة، خصوصاً أن السياسة ذاتها كانت تعيش على تفسير يتيم للخلافات يقسمها إلى تيارين يتهم كل تيار الآخر بالخيانة الوطنية.
تساءلت في مفتتح هذه المقالة: هل يحتاج الكاتب لاتحاد كتاب؟
أعتقد أنه نظرياً يحتاج، ولكن ضمن التشديد على الصفة النقابية أي في سياق تمثيل الاتحاد لمصالح منتسبيه النقابية والمهنية ودفاعه عن مصائرهم وحقوقهم في المؤسسات التي يعملون فيها وهي حالة غير متوفرة إطلاقاً في الاتحاد الفلسطيني الغارق تماماً في السياسة بعناوينها العامة التي تقفز بالضرورة عن منتسبي الاتحاد ولا ترى مصائرهم تلك ولا ترى أنها ضمن عمل الاتحاد أو أسباب قيامه واستمراره. قيل في وصف اتحاد كتاب فلسطين الذي تم حله من أجل تأسيس «الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين» إنه اتحاد نخبوي يشترط على من يرغب الانتساب إليه أن يكون قد أصدر كتباً أدبية وكأن هذا الشرط بدعة غريبة، على رغم أن المنطق يقول إنه شرط بديهي كي لا يختلط القمح بالزؤان وتنفتح أبواب الاتحاد لكل من يرغب مثلما حدث.
جريدة الحياة