يقول مؤرخو الأدب إن هوميروس الذي كان أعمى، أمضى الشطر الأكبر من حياته مُتنقّلا بين الجزر اليونانية لينشد أشعاره على الناس…
أما الشعراء الصينيون القدماء فلم يكونوا بحاجة إلى الجمهور. لذا كانوا يفضلون العيش في أحضان الطبيعة مثلما سيفعل الشعراء الرومانسيون في ما بعد بهدف “القبض على ما يصعب إمساكه وإدراكه”، وسعيا منهم لبلوغ المطلق، كانوا يجتازون ظواهر الأشياء، ويمضون في التأمل بعيدا حد الإطلالة على الأعماق المعتمة، وعلى العدم:
من دون أن نجتاز العتبة
نتعرف على الكون
من دون أن ننظر من النافذة
نستشفّ طريق السماء
إلى أبعد حدّ نذهب
نحن لا نعرف إلاّ القليل
وفي أسواق عكاظ، وغيرها من أسواق الجزيرة العربية قبل الإسلام، كان الشعراء يتبارون في قراءة قصائدهم أمام جماهير غفيرة. وبالذهب كانت تكتب المعلقات على جدران الكعبة بمكة لكي يقرأها الناس في مواسم الحج. وكان الشاعر قبل الإسلام يحبّ أن يكون “فارس” قبيلته و”فحلها” و”لسانها القاطع”، ونصيرها في الحروب، وفي الملمات.
عن ذلك كتب ابن رشيق في “عمدته” يقول “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصُنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج”.
وبعد الإسلام، نادرون هم الشعراء الذين كانوا ينفرون من قراءة قصائدهم أمام الجمهور. وهذا كان حال أبي العلاء المعري على سبيل المثال لا الحصر. أما جل الشعراء الآخرين فقد كانوا يتهافتون على قراءة أشعارهم في المجالس الكبيرة، وبحضور الأعيان، أو أمام الملوك والأمراء وأهل النفوذ. فمن دون ذلك لا يكونون قادرين على تأمين رزقهم، وعلى إثبات مكانتهم الشعرية.
وخلال القرون الوسطى، ظهر في شبه الجزيرة الإيبيرية، وأيضا في فرنسا، وفي ألمانيا شعراء التروبادور، أو الشعراء المنشدون، الذين كانوا يتنقلون بين القصور لإنشاد قصائدهم على أنغام الموسيقى. ويقال إنهم كانوا امتدادا لشعراء الموشحات في الزمن الأندلسي الجميل عندما كان العرب يعيشون في الدعة والرخاء.
وخلال القرن العشرين برز شعراء في جل الثقافات واللغات، كانوا قادرين على أن يملؤوا القاعات الفسيحة، بل الملاعب الرياضية عند قراءتهم لأشعارهم. وهذا كان حال ماياكوفسكي وايفتشنكو في روسيا، ونيرودا في التشيلي، وأحمد شوقي، والجواهري، وبدوي الجبل، ونزار قباني، ومحمود درويش في العالم العربي.
لكن عزوف الشاعر عن قراءة قصائده أمام جماهير غفيرة، وفي أماكن فسيحة، بدأ مع الشعراء الرومانسيين في القرن التاسع عشر، ثم ازداد ترسّخا لدى شعراء الحداثة. فنحن لا نعلم مثلا أن بودلير، أو رامبو، أو مالارميه، أو إدغار ألن بو، أو هولدرلين، أو غيرهم من شعراء الحداثة الكبار، أظهروا ولو لمرة واحدة رغبتهم في قراءة قصائدهم أماما جمهور غفير، بل إنهم كانوا يفعلون ذلك في حلقات ضيقة لا تتسع إلاّ للمقرين منهم، والعارفين بخفايا عوالمهم.
وكان الفيلسوف الدنماركي كيركوغارد من أوائل من عبر عن ظاهرة عزوف الشاعر من الجمهور، ومن الميادين الفسيحة قائلا إن الجمهور “ليس أمة، ولا جيلا، ولا مجموعة بشرية، ولا مجتمعا، ولا أشخاصا بعينهم” لأن كل شخص ينتمي إلى الجمهور لا يمكن أن يكون “ملتزما” بكل ما يفعله هذا الجمهور. لذلك فإن هذا الجمهور بحسب رأي كيركوغارد ليس في النهاية سوى هذا الشيء “الهائل، وهذا الفراغ التجريدي المهجور الذي هو في الآن نفسه كل شيء ولا شيء”.
وفي كتابه “الشاعر في المدينة”، يشير الشاعر البريطاني أودن إلى أن الشاعر الحديث لا يحتاج إلى جمهور، بل هو يحتاج في الحقيقة إلى “حياته الخاصة ليكون مبدعا حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة”. وحسب أودن قد يكون للجمهور مفهوم سيء كأن يرمز مثلا إلى ذلك الجمع الغفير من الناس الذين يتجمعون لمشهد سحل وإعدام إنسان، أو لمشاهدة من يقومون بتحطيم بيت قديم لعائلة عريقة.
صحيفة العرب