هل عكف المثقفون العرب على استشراف مستقبل الثقافة؟هل فكروا في التحولات الجذرية التي ستؤدي إلى تغيير البنى الثقافية، لتقوم عليها مفاهيم جديدة كلياً ومختلفة عن كل ما مضى؟ علينا ألاّ ننظر إلى العالم العربي على صورته الحالية، التي تبعث على الإحباط والتشاؤم. ببساطة: هو الآن لا يمتلك ثقافة فاعلة عالمياً، لا محل له من الإعراب علمياً وتقانياً وإنتاجياً واقتصادياً، لا قوة صلبة ولا ناعمة، بل إنه غير قادر على تقرير مصيره، ولا يدرك ذلك ويعيه. جرّاء الثقافة التي هو متعثر فيها، سيكتشف عاجلاً، لا آجلاً، أنها تجاوزها الزمن، كورِق أصحاب الكهف.
عند تحليل ما آل إليه العالم العربي، يتبين لنا أن ثقافتنا لم تلعب الدور المحوري الضروري لإيجاد المحركات الأساسية للتحولات الإيجابية الفاعلة في مجرى التاريخ: تحرير العقل، إطلاق مارد البحث العلمي، تأسيس السياسة على أنها نظام إداري لخدمة مصالح الأوطان، تماماً مثل دور المايسترو في الفرقة السيمفونية:الجميع شركاء في العمل.النظام العربي في العصر الحديث ظل متخلفاً لسبب واضح، وهو أنه تشبث بالإقطاعية (الفيودالية) السلطوية السياسية، التي تجاوزها الزمن في البلدان التي تقدمت بالديمقراطية والانفتاح على لوازم المصالح الوطنية: ذلك أدّى إلى تخلف الاقتصاد والنظام الإداري والتطويري في جميع الميادين.
المنظومة الثقافية التي أفضت إلى «تغريز» العجلات ستفاجأ عاجلاً، لا آجلاً، بغابة آمازون من العلوم التي ستغدو قلب ثقافة المستقبل، ستقلب كل مفاهيم الإبداع، ستغير البنى الفكرية والفلسفية، سيصبح تحليل الماضي البعيد بعيداً من التخمين وتخيل السيناريوهات الافتراضية: لدراسة قدرات دماغ نياندرتال، تصنع العلوم العصبية وعلوم الأحياء والوراثة نموذجاً واقعياً، «ميني دماغ» لذلك الإنسان، كذلك للحيوانات المنقرضة. سلوكيات الجسيمات ما دون الذرة ستنعكس على مفاهيم المنطق والفلسفة. ستمسي المفاهيم التربوية والتعليمية التي بين أيدينا ركام أرشيفات متحفية للتاريخ، ما يعني أن البنية التحتية للثقافة ستشهد قواعد بنائية مختلفة كلياً.بعبارة أخرى ستقوم التربية على أداء التشابكات العصبية في الدماغ وتطويره، لا على ثقافة التلقين والحشو.أخلاقياً وعلاجياً، لن يحتاج تصحيح سلوك منحرف إلى أكثر من تعديل أداء بضع تشابكات عصبية، أو ذرات في مورّث أو بروتين أو حمض نووي. ألا يتطلّب كل ذلك إلى مناهج قادرة على التنبؤ بالتقلبات الجوية في ثقافة الغد؟
لزوم ما يلزم:النتيجة القلقية:إذا لم يدرس العقل العربي عيوب أدائه، فسوف يغدو هو ذاته مادة للبحوث.
جريدة الخليج