يرافقك الكاتب أو الشاعر وأنت تقرأ نصوصه حتى تنتهي، فإما أن يرحل ولا يعود لذاكرتك، وإما يترك نصه في قلبك مقتحمًا فكرك بلا استئذان كل حين، ليغير ما لديك من قناعات، وتصبح متسابقًا في ميدانه، رغبةً منك أن تكون بين نصوصه، فتعلن عن هذه الظاهرة المميزة بعد اكتشاف، وهذا كان حال القارئ الحصيف مع شاعر اليمن والعرب «البصير» عبد الله البردوني.
لن أقول ثراء البردوني كبير في شعره، بقدر ما هو واسع في سخريته الشعرية، هذا الثراء الذي لا يحتمله الضاحكون حتى تبكي قلوبهم، ويا لها من مفاجأة مشرقة أن ترحب اليوم مؤسسة سلطان بن علي العويس العريقة بأنفاس شعره ولغته التي لم يصل إليها الحداثيون، وبصورته العميقة وأسئلته المستنبتة، والمطروحة دون استفهام من خلال أجوبة مستخفة تارة وغامزة تارة أخرى، في أبيات يقظة الشعور ومحترسة وناضجة، ومدركة حس الفكرة.
البردوني تجربة إبداعية كبرى، وهو المصاب بالعمى منذ طفولته الأولى، أكمل تعليمه وأصبح معلمًا، لكن حياته كانت شاقة للغاية، ليحمل مع شقائه هموم اليمن واليمنيين، ومع الوقت يجاهر بكلمته وتجربته الفريدة… فهل حاول تغيير وعيه ليوسع خياله حتى يبصر ويصل لواقع الحياة؟ أم أن فلتاته تلك خرجت بعد قراءات مكثفة منحته ذكاء وثقافة ولغة وصوراً… ليحمل معاني جديدة؟
حين انصرف البردوني، بقي صوته وأخذ يمضي في دوي الفراغ، وصار الصدى الجديد، حتى لقبه الخبثاء بالضرير، ليقصوا أخباره كي لا يلتفت الناس إلى قصائده الساخرة، بينما هو لا هَمَّ له، ودون خوف من فقدان شيء لا يملكه، لتتراكم كميات السخرية الغنية لديه، مقابل اللا خسارة.
في أشعاره الكثير من التجديد، واختصار للكثير، واختزال للذاكرة وتوظيفات عميقة، وأفكار مبكية، بحضور الطبيعة اليمنية والأمكنة والشخوص مع حواريات مسرحية مضحكة حد الدمع، مخاطبًا الحضور بنشاط فكري ثقيل ومُركز يقدمه ببساطة، لتغدو قصائده ذات هيبة رغم رحيله. فخرج الكثيرون ليعلنوا بأن شعره كان متقاربًا مع شعر أبي العلاء المعري والمتنبي وأبي تمام وحتى طرفة بن العبد، وكل ذلك بسبب تحكمه في بنية الموضوع، أو هيكله كما يقال، مبتكرًا الفكرة والأسلوب وبالتالي معالجًا لكل شيء… كان شاعرًا مخترعًا دفعتنا قصائده للحديث عنها.
قبل أيام أكمل البردوني اليماني المنتمي إلى أرض بلقيس، على وفاته 19 عامًا، لنقيم له بدورنا اليوم وغدًا في مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية بدبي ندوة متكاملة، من خلال تقديم دراسات وأبحاث لما ترك لنا الراحل من شعر… ولعلنا في حضرة أولئك الخبراء من المدعوين وأوراقهم نجد الإجابة حول هيبة قصائده، وعن سؤالنا المتكرر: كيف تكونت بصيرة البردوني، ليصبح بهذا الثراء؟
جريدة البيان