يكاد زكي نجيب محمود – الذي رحل عن عالمنا قبل خمسة وعشرين عاماً (7 أيلول/ سبتمبر 1993) – يمثل في الفكر العربي ما يمثله نجيب محفوظ في الأدب العربي، فكلاهما يجسد النموذج الكلاسيكي للمبدع الذي يصبغ عصره بصبغته هو فيكون عَلماً عليه. وكلاهما طال به العمر وكثر إنتاجه وصاغ مدرسته على مهل وفي حكمة، على عكس آخرين لم تنطو مواهبهم على حكمة الاستمرار وملكة الانتظام فكانوا كالشهاب الخاطف سرعان ما ينطفئ. وكلاهما أيضاً عاش مراحل إبداعية مختلفة ومتعاقبة، إذ مر على محفوظ نزعات تاريخية وواقعية/ اجتماعية، رمزية، بينما توالت على زكي نجيب محمود نزعات صوفية، ووضعية، وصولاً إلى المرحلة التوفيقية.
وعلى منوال موسى بن ميمون في تاريخ الفكر اليهودي، وابن رشد في الفكر العربي الإسلامي، أولئك الذين صاغوا منطق العلاقة التوازنية بين العقل والإيمان في مراحل تحول كبرى داخل ثقافاتهم، يقف الدكتور زكي نجيب محمود شامخاً على قمة الموجة الثالثة «التوفيقية» في تيار النهضة العربية، والتي مثلت دعوة للنهوض كما أرادتها الموجة الأولى/ الإحيائية إبان القرن التاسع عشر التي يقف على رأسها رفاعة الطهطاوي، وصاغ منطقها محمد عبده. وأيضاً دعوة للانفتاح على الآخر كما أراد مفكرو الموجة الثانية/ العلموية في النصف الأول من القرن العشرين، ومن ثم امتلكت دعوته ناصية الوسطية والتوازن.
بل يمكن القول إنه قام بدور يقارب أو يشبه الدور الذي لعبه العظيم إيمانويل كانط في تاريخ الفكر الغربي، حيث تمكن الفيلسوف الألماني من إعادة صياغة الثنائية الديكارتية، المضمنة في الكوغيتو، أي ثنائية الفكر – الامتداد التي أسست للفلسفة الحديثة على قاعدة تصورين أساسيين: أولهما هو الإلوهية المفارقة للوجود، حيث الإله ذات مطلقة، تسمو على العالم وليست محايثة له، أي قائمة فيه ومباطنة لموجوداته، باعتبارها أصل تلك الموجودات وروحها الداخلي. وثانيهما هو الإنسانية المتسامية على الطبيعة، حيث الإنسان ذات موجودة في العالم ولكنه متسام عليه، محكوم بقانون الإرادة الذي يتيح له فرصة الاختيار تعبيرا عن ملكة الحرية الإنسانية. أما الطبيعة فمحكومة بقانون العلية الذي يعكس حتمية آلية وسلوكا مضطردا، فهي إذن مجبورة على الانتظام تحت طائفة قوانين متسقة وشاملة تتحكم بها. هذه الثنائية التي صكها ديكارت كانت بمثابة صياغة فلسفية لمفهوم الاستخلاف الديني/ التوحيدي وتصوره للعلاقة بين الله والإنسان، والذي تعرض لتحديات وضغوط كبيرة بفعل الثورة العلمية انطلاقاً من فيزياء نيوتن الصارمة، انعكست في فلسفة اسبينوزا التي مالت بالثنائية الديكارتية نحو واحدية مادية، سعى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم إلى تهذيبها في ثنائية شبه مادية، تمايز بين الطبيعة والإنسان ولكنها تعطي للطبيعة الأولوية في عملية المعرفة على حساب العقل الإنساني. هذا الفهم المادي لدى سبينوزا هو ما عارضه الفيلسوف الألماني ليبنتز بواحدية روحية، تتصور الوجود كله، وفي قلبه الطبيعة، باعتباره مجموعة من الجواهر الروحية (المونادات) التي تشكل حركتها الأبدية طبيعة الوجود الكوني، وهو الفهم الذي حاول الفيلسوف الإنكليزي جورج باركلي تخفيفه في موازاة هيوم، بإعادة تأكيد ثنائية ديكارت، ولكن مع إعطاء أولوية للمكون الروحي، إذ اعترف بواقعية الطبيعة لكنه منح العقل الإنساني قدرة مطلقة على معرفتها وتمثلها حتى لو لم يعد لها وجود إلا بإدراك العقل لها.
في هذا السياق، بدا الفكر الغربي منقسماً إلى تيارين متناقضين يتجذر كلاهما في ديكارت، ولكن أحدهما مادي يركز على الامتداد إلى درجة تفضي إلى تهميش الفكر أو إنكاره، وهو طريق اسبينوزا وهيوم بالأساس. أما الآخر فروحي يركز على الفكر إلى درجة تهميش الواقع أو نفيه، وهو الطريق الذي شقه ليبنتز وباركلي بالأساس. ومن ثم بدا الإيمان الروحي وكأنه نقيض للعقلانية العلمية، إلى درجة تكاد تجعل الفرد عاجزا عن الجمع بين كونه مسيحياً وعقلانياً، حتى جاء كانط في ذروة عصر التنوير ليعيد بناء الثنائية الديكارتية على قاعدة علمية أكثر صلابة، تستوعب الرؤى الفلسفية التي استلهمت فيزياء نيوتن، مؤكدا على أهمية الذات/ العقل من جانب والواقع/ المادة من جانب آخر، مؤسساً للنزعة النقدية التي مثلت على صعيد الفلسفة ما يوازي الانقلاب الكوبرنيكي على صعيد الفلك، حيث الواقع المادي قائم ومعترف به اعترافا كاملا، ولكنه لا يستطيع أن يعطينا سوى انطباعات أو مدركات حسية لا يمكن فهمها أو تحويلها إلى أفكار إلا من خلال العقل البشري ومبادئه الكلية، التي تحتوي على مقولات (وسائط للفهم والتأمل والتحليل) من قبيل الزمان والمكان والعلية، تنظم الواقع وتجعله قابلا للفهم العقلي، حيث صار العالم الطبيعي يدور في فلك العقل الإنساني، الذي احتل موقع المركز في عملية الفهم، مثلما تدور الأرض حول الشمس التي احتلت موقع المركز في النظام الفلكي.
شيء مشابه قام به زكي نجيب محمود في الثقافة العربية الحديثة، التي احتل فيها محمد عبده موقع ديكارت، منذ قدم صياغته الرائقة للعلاقة بين العقل والنص، معطيا الأولوية للعقل، مؤكداً أن النص لا يمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما ظهر تناقض، كان بالضرورة «ظاهرياً»، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية. وهكذا لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه.
غير أن هذا الفهم الثوري توارثه تياران طالما تصارعا على الثقافة العربية طوال القرن تقريباً ما بين التاسع عشر والعشرين: أولهما العلموي الذي تجسد في شبلي شميل وفرح أنطون كمدافعين عن النزعة التطورية الداروينية والفلسفة الرشدية، كما في سلامة موسى الذي دافع بشراسة عن مجمل الفكر الغربي المادي. وثانيهما السلفي الذي تجسد في رشيد رضا ثم حسن البنا، مدافعاً عن يوتوبيا الخلافة الدينية، على نحو أفضى إلى الإسلام السياسي ثم الجهادي. في هذا السياق كان زكي نجيب محمود، هو الرجل الذي أعاد بناء ثنائية محمد عبده (العقل والنص) مستنداً إلى إسهامات الفكر العقلاني التالية عليه، ولكن متمماً لها وواضعاً إياها في قالب «الأصالة والمعاصرة».
جريدة الحياة