تفجرت في بريطانيا في أوائل القرن التاسع عشر الثورة الصناعية، ومعها تفجرت الثورة العلمية واكتمل بذلك الفرسان الثلاثة للإمبراطورية البريطانية: الصناعة والعلم والتقنية (التكنولوجيا). ولكن الجمهور شغف باكتشافات العلماء. وكان الناس يتدفقون على مبنى المعهد الملكي للعلوم في البارلمال ستريت ليستمعوا لآخر ما لدى العلماء من طروحات. كلام عن الكالسيوم والبوتاسيوم والسترونتيم والباريوم… إلخ. برز في تلك الآونة العالم الكبير في الفيزياء همفري ديفي. أخذ منصته في المعهد الملكي وراح يفرج الجمهور على عجائب العلوم. تلقي بقطعة صوديوم على الماء فينفجر الماء إلى لهيب ودخان. ويا للعجب! ويضع سلكاً نحاسياً دقيقاً في طنجرة من الماء يتوسطها حجر مغناطيسي فيبدأ السلك بالدوران حول القطعة المغناطيسية… وهلمجرا. إنها بداية التوصل للكهرباء، ومن ثم إنارة المصابيح الكهربائية وكل هذه المبتكرات والمخترعات التي تقوم على الطاقة الكهربائية.
تهالك الجمهور للاستماع إليه والتفرج على تجاربه العلمية كما كان الجمهور العربي يتهالك في الشارع للدخول والاستماع لمطربينا ومطرباتنا. غص المعهد الملكي للعلوم بالزبائن وتزاحموا في الشارع، شارع بارلمال إلى حد أن اضطرت بلدية لندن إلى تقييد المرور فيه باتجاه واحد. والكل متعشق لمشاهدة آخر عجائب التجارب العلمية. شوف عندك يا سلام!
تأثر بهذا الهوس العلمي الرسام الشهير ترنر فراح يصور في لوحاته هذا التحول في نهج الحياة. لاحظ كفنان كيف حلت السفن البخارية التي تسير بالماكينة محل السفن الشراعية التي تسير بقوة الهواء. صور هذا التحول في قيام زورق بخاري إلى صغير يجر وراءه السفينة الشراعية الضخمة تمارير. يجرها إلى مرفئها الأخير حيث قاموا بتكسيرها وتفسيخها. إنها مسيرة العلم الحديث والتكنولوجيا المعاصرة تحل محل القديم.
ثار المحافظون ورجال الدين على هذه التحولات واعتبروها مقدمة لتفكيك المعتقدات القديمة وما تقوله الكتب. بيد أن ترنر الرسام راح يهتدي بكل ما بدأ العلماء يقولونه عن الطبيعة والضوء والألوان. قاد ذلك في الأخير إلى ظهور المدرسة الانطباعية في الفن، مانيه وموني وسيزان وفان جوخ. لم يعد الرسامون يرسمون السماء على كونها «الخيمة الزرقاء». كلا إنها مجموعة من الألوان. والشمس لم تعد مجرد دائرة مضيئة يرسمها الرسام كلطخة من اللون الليموني الكروم. إنها لون دائري يتغير من لحظة إلى لحظة.
الثورة الصناعية تزاوجت مع الثورة العلمية والثورة الفنية. ومن يدخل في هذه الأيام إلى الأكاديمية الملكية للفنون يجد بجوارها لاصقاً بها مبنى جناح الأكاديمية الملكية للعلوم وفي مقابله مبنى الجمعية الملكية للجيولوجيا. الصناعة تحتضن العلم، والعلم يحتضن الفنون.
جريدة الشرق