يحدث، وكثيراً، أن يسيء المريدون والأتباع، لأقوال ومواقف من يعدونهم أساتذة لهم، فيجعلون منها سطحية ومبتذلة، وفاقدة للعمق الذي تنطوي عليه أطروحات الأساتذة، لأن المريدين لا يحسنون تمثل هذه الأطروحات، أو حتى لا يفهمونها، ويروحون يكررون، كالببغاوات، مصطلحات يحسبون أنها تعود إلى «الأساتذة»، لكنها لا تحمل الشحنة المعرفية والدلالية التي هي عند هؤلاء الأخيرين.
يحكى أن كارل ماركس، وقد ساءه أن بعض من عدّوا أنفسهم أتباعاً لفكره، لم يفهموا هذا الفكر، وأنه نفسه لم يصل، لحظة قال هذا القول، إلى استنتاجات نهائية حول ما يبحث فيه، فالمعروفة سيرورة لا تتوقف، قال عبارة شهيرة: ما أنا متأكد منه، هو أنني نفسي لست ماركسياً.
تتفاقم هذه العلاقة الملتبسة بين الأساتذة والمريدين، حين يكون هؤلاء المريدون أبناء ثقافة ولغة مختلفتين، وبالتالي فإن ما يقرؤونه من أعمال وأفكار الأساتذة، يصلهم عبر الترجمة، ونحن نعلم ما يحيط بموضوع الترجمة هذا من مصاعب وإشكالات، ففضلاً عن الشكوك التي تحيط بقدرة المترجمين على الإلمام بالأفكار، كما هي في اللغة الأصل التي وضعت بها، فإن صعوبة أخرى تنشأ بسبب التعثر في إيجاد المرادفات المناسبة لما ورد في الأصل، في اللغة المترجم إليها، خاصة إذا كانت هذه المفردات على شكل مقولات أو مصطلحات، ما يتطلب من المترجم اجتراح أو اشتقاق تعابير جديدة ليست مألوفة في لغته.
من الأمثلة التي كثرت الإشارة إليها أن بعض الملمين باللغة الإنجليزية والمتمكنين منها، من العرب، يرون أن كتاباً مهماً مثل «الاستشراق» لإدوارد سعيد أكثر وضوحاً وسلاسة وقابلية للفهم في أصله الإنجليزي، من الترجمة المعقدة التي وضعها كمال بوديب، دون الانتقاص من قيمة هذه الترجمة ولا من قدرات صاحبها.
في «خيانة الوصايا» يسخر ميلان كونديرا من إساءة فهم عبارة وردت على لسان إحدى شخصيات عمله: «كتاب الضحك والنسيان»، فـ«بيبي»، وهذا اسم الشخصية المهووسة بفكرة إنجاز كتاب، وجدت نفسها وجهاً لوجه مع كاتب مشهور في لقاء رتّبته لها صديقتها، وعلى خلاف ما توقعته من تشجيع منتظر من الكاتب، فإنه أحبطها بقوله: «إن الرواية هي ثمرة الوهم البشري.. كل ما يستطيع المرء أن يقوم به هو تقديم تقرير عن نفسه. أي شيء آخر هو محض كذبة».
هذا القول، وقول آخر ورد في «كتاب الضحك والنسيان» على لسان أستاذ للفلسفة، فحواه: «أن المغامرة الكبرى في حياتنا هي غياب أي مغامرة»، سرعان ما أصبحا بمثابة الشعار للرواية الفرنسية، مع أن كونديرا لم يكن يعني ما جاء على لسان شخصيات كتابه من أقوال، هي برأيه «سخافات مركبة بشكل معقد»، لم يكن هدفه الدعوة إليها ولا حتى تبنيها.
ويرى كونديرا أنه لو كشف تحفظاته حول العبارتين، وسخر منهما، لما كانتا اكتسبتا كل «الصدقية» التي أضفيت عليهما، على خلاف ما كان يقصد.
جريدة الخليج