أليس مبالغة القول إن مناهج تدريس العربية، من الابتدائية إلى الجامعة، تحتاج إلى تغيير جذري؟ الجواب الفوريّ: كم نسبة الذين يستطيعون، بعد 16 سنة من حشو الأدمغة بالنحو والصرف والأدب، كتابة صفحة من دون كوارث؟ ثم: كم منهم يقدرون على التحدث بالفصحى دقائق معدودة؟
التلاميذ والطلاب لا ذنب لهم، فهم خاضعون لمقرّر لم يغربل منذ عقود وراءها قرون. النتيجة المضادّة للإبداع التربويّ هي غياب العقل الناقد، ما يفرض مناهج لا تؤهل الدارس للإحساس بجمال اللغة. مقرّر العربية ينشئ أقراصاً صلبة، المفاضلة بينها تقوم على مدى سعة التخزين، واستعادة المخزون كاملاً، سليماً لا متداخلاً ولا ملتبساً.
في العلوم، تعمد التربية الحديثة إلى دفع الدارسين إلى استنباط القاعدة واكتشافها، عندئذ تكون قد هضمت واستقرت في الذهن واضحة المعالم، ثم لا تنسى. المهمّ هو أن القواعد مجرّدات، فمن الضروريّ تجسيمها وتحويلها إلى مادّة، ليسهل على الدماغ استيعابها. ألا ترى أن الرياضيّات هي الأصعب على الإطلاق، لكونها مجرّدات؟ من هنا ابتكرت سنغافورة منهجها المتألق في تدريس الرياضيات، بتحويل مجرّداتها إلى ملموسات، فصارت البلدان المتقدمة تتسابق إلى تطبيقه.
اللغة لعبة مسلّية فيها المنطق والمعادلات والاستدلال، وأشكال لا تحصى من الفنون. كل أسرار البلاغة ألعاب لغوية، لها قواعد ولا شك وفيها معادلات ككل الألعاب، بل إنك بالمهارات تستطيع تغيير قواعد اللعبة، كالتقديم والتأخير والقلب والإبدال، والتقدير والاستتار والإضمار، وفيها التناسب والتماثل كالطباق. أمّا الموسيقى فحدث ولا حرج، فمن الجناس ضروب إلى حدّ تغليب حرف أو حروف كما في المقامات، والقراءة عكساً وطرداً. ألعاب المجاز والاستعارة والتورية. ألعاب الأخوات في فريق أو حروف الجرّ التي تتناوب. حرباء حتى. تغيير معادلات المنطق بتغيير مواضع كلمة واحدة: أنا فقط أتحدث عن فلسطين، أنا أتحدث فقط عن فلسطين، أنا أتحدث عن فلسطين فقط. لا نهاية للألعاب.
إخفاق المناهج اللغوية هو أن يشعر الدارس بالرهبة والرعب أمام صعوبة المادّة، سيراها ثقيلة الدم ويكرهها لأنها يمكن أن تتسبب في فشله. تغدو العاميّة أقرب إلى قلبه، واللغة الأجنبية أسهل. أمّا إذا وجد أن لغته ألعاب ممتعة تنمّي عضلات ذهنه، مارسها بشغف، وعَشِق التدرّج في تمارينها التي تتطلب قدرات أكبر على مرّ السنين.
لزوم ما يلزم: النتيجة التكراريّة: إذا صارت الفصحى لغة الحضانة، حللنا المشكلة إلى نهاية الجامعة.
جريدة الخليج