يبدو المشهد جديراً بفيلم سينمائي من نوع الخيال العلمي: امرأة ثلاثينية قررت أن وقت الأمومة قد حان، تتجول في متجر كبير للأعضاء البشرية، تدفع أمامها عربة التسوق، تختار ذراعاً بيضاء من هنا ودماغاً ثقيلاً من هناك وشفتين مبتسمتين من رفّ علويّ. وعندما تحصل على كل ما يلزم، تتوجّه لتسديد الثمن وتخرج حاملة طفلها الذي اختارته حسب المواصفات التي تروق لها. والمشهد الذي يبدو مُستغرباً اليوم يمكن أن يقترب من الواقع. وهناك آلاف العلماء الذين يشتغلون عليه منذ عقود. يقابلهم جيش من القانونيين ورجال الدين وعلماء الاجتماع والفلاسفة الذين يحاولون مواكبة ما تتكتم عليه مراكز الأبحاث، لوضع تشريعات جديدة لنظام بشري جديد. من سيعيش ليشاهد معامل تُفرّخ أطفالاً حسب الطلب، مثل محتويات البيتزا؟
تنشغل المجتمعات الغربية بما باتت تترتب عليه عمليات التخصيب المختلفة. وهناك اليوم أكثر من 5 ملايين من أطفال الأنابيب يعيشون بيننا. والبرلمان الفرنسي يواجه طلبات بتوسيع دائرة الذين يحقّ لهم الاستفادة من هذه التقنية. هل تبقى حكراً على العائلات «الطبيعية» والأزواج الذين يعانون من صعوبات في الإنجاب بالطريقة التقليدية، أم تتاح الأمومة والأبوة لفئات أخرى، مثل النساء العزباوات والرجال المثليين؟ لقد سمح العلم للحيامن أن تلتقي البويضات في بوتقة، وللتخصيب أن يجري خارج الرحم. وهناك من يريد للحبل أن يُترك على الغارب. وما يجري وراء جدران المختبرات، منذ 40 عاماً، يسبق ما يُبدعه مؤلفو الروايات والأفلام.
لا اعتراض على رغبة زوجة تحلم بعلاج للعقم. لكن هناك سنوات ضوئية بين فرصة أن تحمل وبين أن تمسك بهاتفها وترسل لطبيبها رسالة نصية تتضمن الصفات التي تطلبها في طفلها. وهناك، اليوم، فرع من فروع النشاط العلمي اسمه «التحولات الإنسانية». وفي وادي السيليكون، بكاليفورنيا، تتسابق الشركات المختلفة لتحسين الأنسال إلى الحدود القصوى بالاستفادة من التطورات في الميدان الطبي. هل هناك من لا يحبّ «كامل الأوصاف»؟ الغريب أن ناقوس الخطر لا تقرعه أيدي مُربين وقانونيين وأصحاب عقائد، بل تأتي الصرخة من داخل البيت، من علماء يحذرون من تصنيع إنسان من دون عيوب، سوى أن جسده لا ينسجم مع روحه. وهذه قضية بعيدة عن المختبرات والأنابيب وثلاجات تجميد الأنسجة أو تخليق الخلايا. فالتحكم في الأرواح من مفاعيل الوجد والانخطاف.
الدكتور جاك تيستار هو أول المعترضين على فتح خيارات التوليد من دون ضوابط. إنه «أبو أطفال الأنابيب» في فرنسا، وكان وراء ولادة أماندين، في عام 1982. أول جنين جرى تخصيب نطفته في المختبر، قبل زرعه في رحم أمه. وقد كبرت أماندين ووضعت، بدورها، طفلة قبل خمس سنوات. أما تستار فما زال يواصل البحث والتأليف. وهو لا يقف ضد التحسينات الاستباقية لصحة المواليد لكنه يعترض على السعي لتغيير الصفات الوراثية بشكل يقود البشرية إلى «التصابي». سيرفض الرجال والنساء الشيخوخة ويلجأ كل منهم، حسب إمكانياته، إلى كل ما يقدمه لهم الطب من دعامات للشرايين ومقويات للعضلات ومحفزات للذاكرة وعمليات تجميل للمظهر الخارجي. وإذا كان الكل يتحدث عن «الذكاء الصناعي»، أي قدرات الإنسان الآلي والروبوتات، فإن تطوير الإنسان العادي يثير مسألة وجودية. ولا يجد الفيلسوف لوك فيري، الذي كان وزيراً للتربية الوطنية وللشباب في فرنسا، غضاضة في بشرية مستحدثة تقوم على التكنولوجيا.
منذ أسطورة جلجامش والإنسان مؤرق بفكرة الخلود. والمؤمن يتركها لخالق كفيل بتدبير مخلوقاته.
جريدة الشرق الاوسط
- 0097142243111
- info@alowais.com
- Sun - Thr: 9:00 - 16:00