هل كان ضعف السمع الذي عاناه منذ طفولته، أم عمله المبكر كمشغل تلغراف، أم هو طبعه الحالم، وهو الطالب الشريد الذهن، أو «الفاسد»، بحسب أستاذه في المدرسة التي لم يطل بقاؤه فيها؟ أياً يكن السبب، فقد أضحى «توماس إديسون» علامة فارقة في وسائل التواصل البشري، بما قدمه من كنوز شملت مسجل الاقتراع الآلي، ومسجل الموسيقى والصور المتحركة، وجهاز الفونوجراف، وآلة التصوير السينمائي، إلى جانب الكثير الكثير من سجله الساحر.
ساحر؟ نعم، هكذا عنونت الصحف: «ساحر مينلو بارك»، فما أنجزه لا يمكن أن يصدر عن مجرد مخترع. وقد كانت سمة «التواصل» هذه حاضرة حتى في طريقة عمله، فهو من أوائل المخترعين الذين قاموا بتطبيق مبدأ الإنتاج الشامل والعمل الجماعي على نطاق واسع لعملية الاختراع، لذلك كان يعرف بأنه أول من أنشأ مختبراً للأبحاث الصناعية.
«البزنس»
باضطرار العائلة للانتقال إلى بورت هورون في ولاية ميشيجان عام 1854 بحثاً عن فرص عيش أفضل، بدأ توماس حياة العمل مبكراً، فمارس بيع الخضار، والحلوى، والصحف في القطارات.
وفي تطور نوعي، تمكن من الحصول على حق حصري لبيع الصحف على الطريق بالتعاون مع أربعة مساعدين، مطلقاً نشرة أسبوعية خاصة، إلا أن مواهبه التجارية لم تقف عند هذا الحد، فقد تمكن من إطلاق سلسلة من المشاريع الرائدة، لينتهي المطاف به إلى تأسيس أربع عشرة شركة.
ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الشركة العملاقة «جنرال إلكتريك» القائمة حتى الآن هي واحدة من هذه الشركات التي أنشأها إديسون.
بطل التلجراف
دخل إديسون عالم البرقيات والتلجراف من خلال بطولة درامية لافتة، حيث كان أن أنقذ طفلاً عالقاً في سكة الحديد من قطار كاد يقتله، وكان والد هذا الطفل وكيل محطة ماكنزي، وهنا نال إديسون أجر صنيعه وظيفة في المحطة كمشغل تلجراف.
ومن المؤكد أن لهذه الوظيفة أثراً كبيراً في حياة إديسون، ظهر في تركز اهتماماته في مجال الاتصال، وأشكاله، ومخترعاته.
وقد كان أحد أولى اختراعات إديسون يتعلق بالتلجراف، فنال أول براءة اختراع عن مسجل صوت كهربائي عام 1869.
بداية الشهرة
في إطار التلجراف أيضاً، كانت أولى خطوات المجد والشهرة، فحين بدأ توماس إديسون مسيرته في نيوآرك، بولاية نيو جيرسي، اخترع المُكَرِّر الآلي، وغيره من الأجهزة التلجرافية المتطورة، ولكن العام 1877 كان شاهداً على أول طريق الشهرة باختراع الفونوجراف.
كان الفونوجراف علامة فارقة، وإنجازاً مذهلاً، بدا في وقته ضرباً من السحر، حتى نال إديسون لقب «الساحر» في بعض الصحف التي سلطت الضوء على هذا المخترع الفريد.
وفيما بعد، اجتهد إديسون في تطوير الفونوجراف الذي كان بداية يسجل على أسطوانة من القصدير، لمرات قليلة فقط، وبجودة صوت سيئة، إلى أن تمكن من إعادة تصميم النموذج باستخدام أسطوانات الكرتون المغلفة بالشمع بواسطة ألكسندر جراهام بيل، وتشيتشيستر بيل، وتشارلز سومنر تاينر.
مينلو بارك
ليس «مينلو بارك» واحداً من أجهزة إديسون، لكنه من دون شك، أحد أهم اختراعاته، وأبلغها تأثيراً في المسيرة العلمية والعملية.. إنه مختبر البحث الصناعي.
بدأت الحكاية حين عرض إديسون التلجراف للبيع، مؤملاً نفسه أن يجني من اختراعه الرئيسي أربعة أو خمسة آلاف دولار، لتفاجئه شركة «ويسترن يونيون» بعرض عشرة آلاف دولار مقابل اختراعه الثمين.
قرر إديسون أن يستثمر هذه الغنيمة التي تعادل مئتي ألف دولار في زمننا، بتأسيس مقر بحثي، يهتم بإنتاج الاختراعات التقنية وتطويرها، وتضم كادراً متخصصاً من الباحثين، وهو ما كان.
ولهذا يعزى ذلك الكم الكبير من الاختراعات المسجلة باسم إديسون، إذ كان مؤسسة لا فرداً، ومجموعة باحثين يقودهم ساحر كبير.
المصباح الكهربائي
من بين الباحثين الذين عملوا مع إديسون يبرز اسم مساعده وكبير المهندسين لديه، استشاري الهندسة الكهربائية وليام جوزيف هامر، الذي تولى مهام أساسية في التجارب على الهاتف والفونوجراف والسكك الحديدية الكهربائية، والفاصل الحديدي، والمصباح الكهربائي المتوهج، وغير ذلك.
في تجارب المصباح الكهربائي، كان هامر المسؤول عن التجارب والتسجيلات. وبعد عمل وجهد، تمكنت ورشة إديسون هذه من إنتاج خمسين ألف مصباح كهربائي في السنة الأولى، بقيادة المدير العام فرانسيس روبنز ابتون.
ووفقًا لإديسون، فقد كان هامر «رائد الإضاءة الكهربائية المتوهجة».
وباستثناء الفونوجراف، فإن أعمال إديسون توصف بأنها تطوير وتحسين وبناء على تقنيات سابقة، وهذا ما ينطبق حاله على المصباح الكهربائي، فلم يكن إديسون ورفاقه أول من اخترعه، وإنما كان له الفضل بتطويره وإنتاج أول مصباح متوهج عملي من الناحية التجارية، مصلحاً عيوب مخترعات سابقيه التي كان من بينها أنها كانت قصيرة الأجل للغاية، وذات تكلفة إنتاجية عالية، وتستهلك الكثير من التيار الكهربائي.
تكريم الساحر المخترع
لا يتسع الحديث لسرد مخترعات إديسون وإسهاماته العلمية، ولا كذلك ملامح الأثر الذي خلفه في من جاء بعده.
وهنا عرض موجز لبعض ما ناله «الساحر» من تكريم لقاء ما قدم للبشرية.
– استحدثت الجمعية الأمريكية للمهندسين الكهربائيين جائزة كبرى باسمه تعد أقدم جائزة تُقدم في مجال الهندسة الكهربائية والإلكترونيات.
– تسمية جوائز الموسيقى الرئيسية في هولندا بجائزة إديسون.
– منح جائزة توماس إديسون لبراءة الاختراع عن براءات الاختراع الفردية من قبل الجمعية الأمريكية للمهندسين الميكانيكيين منذ سنة 2000.
– فاز إديسون عام 1887 بوسام (Matteucci Medal).
– فاز عام 1889 بوسام (John Scott Medal) من قبل مجلس مدينة فيلادلفيا.
– في عام 1899 فاز بوسام (Edward Longstreth Medal) من قبل معهد فرانكلين.
– فاز عام 1908 بوسام (John Fritz Medal) من جمعية المهندسين الأمريكيين.
– عام 1915 فاز بوسام فرنكلن مناصفة مع هايك كامرلينغ أونس من معهد فرانكلين لمساهمته باكتشافات أسست الصناعات وأثرت في الحياة البشرية.
– فاز عام 1928 بوسام الكونجرس الذهبي.
– عام 2008 أُدرِج توماس إديسون ضمن قاعة مشاهير ولاية نيو جيرسي.
– قام متحف بورت هورون، بولاية ميشيجان، بترميم المستودع الأصلي الذي عمل به توماس إديسون عندما كان شاباً، وأُطلِق على المستودع اسم متحف مستودع توماس إديسون.
واستحوذت فكرة النجاح وقهر الفشل على عقل إديسون، إلى درجة مفرطة، وهو الذي حاول إثباته من خلال إصراره الشديد على النجاح، ومن يتتبع الكثير من الأقوال المنسوبة إليه، يرى انعكاس هذه الحالة في ما بدر عنه من أقوال نعرض بعضها:
إضاءة
من اختراعات إديسون اللافتة نذكر (جهاز التصوير السينمائي، القلم الكهربائي، الدمية الناطقة، مطاحن الفلزات والفواصل، المولد الكهربائي، خلية الوقود الحديثة، البطارية القلوية).
مطاحن الفلزات والفواصل
هو جهاز يفصل جزيئات المواد الخام الناعمة من الصخور، ويوزعها في صندوقين مختلفين، من خلال مغناطيسات كهربائية قوية، وبعد إجراء التجارب والاختبارات، بنى إديسون مصنعاً في ولاية نيوجيرسي يتيح له الوصول إلى 19 ألف فدان من المعادن.
جهاز التصوير السينمائي
ابتكر إديسون هذا الجهاز عام 1893م لتجميع الصور الفوتوغرافية الثابتة، وجعلها متحركة عن طريق تسجيل الصور على شريط ضيق من السلولويد يعرض على شاشة السينما، ويعتمد التصوير السينمائي نظرية اكتشفها العالم بيتر مارك اسمها «استمرارية الرؤية».
البطارية القلوية
اكتشف إديسون حلاً قلوياً أثناء تجربة بطارية الحديد والنيكل، فأنتج بطارية تدوم طويلاً، وأنتج سوقاً ضخمة لمنتجه الجديد، الذي أصبح أنجح سوق في سنواته الأخيرة.
عن السيرة
عام 1847 ولد الطفل السابع، والأخير، لصمويل إديسون في مدينة ميلان بولاية أوهايو الأمريكية، وترعرع في مدينة بورت هورون بولاية ميشيجان، وهو من أصول هولندية، وقد اضطر الأب إلى الهرب من كندا بسبب مشاركته في ثورة ماكنزي الفاشلة سنة 1837.
في المدرسة كان توماس شريد الذهن، حتى وصفه أستاذه بأنه «فاسد»، وكان أن أنهى ثلاثة أشهر فقط من الدراسة الرسمية، ولاحقاً ذكر إديسون أن الفضل يعود لوالدته التي زرعت فيه الثقة والحافز ليكون ما كان بعد، وقد كانت والدته تقوم بتدريسه في المنزل.
من أقواله:
– أن أمي هي التي صنعتني، لأنها كانت تحترمني، وتثق بي، أشعرتني بأني أهم شخص في الوجود، فأصبح وجودي ضرورياً من أجلها، وعاهدت نفسي ألا أخذلها كما لم تخذلني قط.
– كل شخص يفكر في تغيير العالم.. لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه.
– إن أشقى لحظات حياتي وأضيعها هي التي لا أجهد فيها عقلي بالتفكير.
– الكثير ممن فشلوا لم يدركوا مدى قربهم من النجاح عندما استسلموا.
– أنا لم أفشل، بل وجدت 10 آلاف طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها.
– لو قمنا جميعاً بما نستطيع فعله لأذهلنا أنفسنا.
– أنا فخور بأني لم أخترع أسلحة.
– الآمال العظيمة تصنع الأشخاص العظماء.
– إنني استطيع دائما أن استخدم المختصين في الرياضيات، ولكن هؤلاء لا يستطيعون استخدامي أبداً.
إديسون في السينما
عام 1944 أنتجت أمريكا فيلماً عن حياة أبرز مخترعيها، وهو أحد أفلام السيرة الذاتية الدرامية الأولى في السينما الأمريكية، ويتعرض لحياة مخترع (أمريكا) الأشهر (توماس إديسون)، وكيف بدأ حياته كطفل عادي يراه الجميع متواضع الذكاء، وكيف كانت تجاربه العلمية الفاشلة مصدر إزعاج دائم لأسرته ومدينته بأكملها، مما تسبب بتلقيبه ب (توم المجنون)، وعلاقته المتوترة مع والده، فيما وقفت والدته معه وآزرته وآمنت به وبعبقريته.
جريدة الخليج