إذا كانت اللغة العربية تتراجع بشكل متسارع في العالم العربي منذ سنوات، فإن التحولات التكنولوجية والعلمية، وما يرتبط بها من اختراعات وتقدم علمي في المجالات كافة، تفرض على لغة الضاد تحدياً خطيراً يعبِّر عن نفسه من خلال الكثير من المظاهر، حيث إن جُل التطور التكنولوجي والعلمي الحادث في العالم يتم بلغات غير عربية، ومن ثم يزداد الاتجاه في العالم العربي إلى تعلم اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، لأنها لغة العلم، ومن خلالها يمكن الاطلاع على العلوم الحديثة في فروعها كافة، في حين أن الإنتاج العلمي باللغة العربية يكاد يكون منعدماً في مجال العلوم التطبيقية والتجريبية، وضعيفاً بشكل كبير في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. فضلاً عن أن حركة النشر العلمي باللغة العربية ضعيفة جداً مقارنة بغيرها من اللغات، وهذا ما أشارت إليه إحصائيات نشرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2015، وجاء فيها أن العالم العربي ينشر 1650 كتاباً في السنة مقابل 85 ألف كتاب في الولايات المتحدة الأميركية وحدها. وفي كتابه «عصر العلم» الصادر عام 2005، أشار العالم الراحل أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، إلى أن مساهمة العالم العربي في الأوراق العلمية المنشورة في العالم بين صفر و0.03 في المئة مقارنة بـ1.3 في المئة مساهمة إسرائيل. وأظن أن هذه النسبة لا تزال معبرة عن واقع المساهمة العلمية العربية في الأوراق العلمية بالعالم، على الرغم من مضيِّ 13 عاماً على صدور هذا الكتاب.
ونتيجة أن العرب بعيدون عن المساهمة في العلوم الحديثة، فإن اللغة العربية غير قادرة على مواكبة المصطلحات العلمية، كما أن ترجمة مثل هذه المصطلحات إلى العربية تكون غير قادرة، في الكثير من الأحيان، على التعبير الدقيق عن فحواها، وهذا سبب يدفع المتخصصين والدارسين إلى هجر العربية نحو لغات أخرى. ولا شك في أن المجامع اللغوية العربية تبذل جهودها في مجال ترجمة المصطلحات العلمية وتعريبها، لكن الأمر أكبر من قدرتها، لأن التطور العلمي متسارع، والمصطلحات العلمية في تجديد وتزايد مستمر، بحيث يكون من الصعب مواكبتها، أو اللحاق بها على مستوى التعريب.
المحتوى العربي على الإنترنت
وإضافة إلى ما سبق، فإن المحتوى العربي على الإنترنت، التي أصبحت الوعاء الرئيسي للنشر والعلوم والثقافة والمعلومات على المستوى العالمي، ضعيف جداً مقارنة بمحتوى اللغات الأخرى. وفي هذا السياق تشير التقديرات إلى أن هذا المحتوى أقل من ثلاثة في المئة، وهذا يجعل العرب يتجهون إلى اللغة الإنجليزية، على وجه الخصوص، لمتابعة ما يتم نشره على الإنترنت، خاصة أن المواقع الإلكترونية العربية ضعيفة المستوى، وليس بمقدورها أن تقدم محتوى منافساً للمواقع بلغات أجنبية، وعلى رأسها اللغة الإنجليزية.
وتُعَدُّ وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً من مصادر إضعاف اللغة العربية وتهديدها من خلال اللغات الهجينة التي يستخدمها روادها، مثل الكتابة العربية بحروف أجنبية، أو التعبير عن الحروف العربية من خلال رموز وأرقام. وقد غدت هذه «اللغات» الهجينة أو المخلَّقة ذات شعبية كبيرة بين مستخدمي الإنترنت من الشباب على وجه الخصوص. ولا شك في أن الإعلام العربي يُعَدُّ أحد المسؤولين عن الوضع السيئ الذي وصلت إليه اللغة العربية، فعلى الرغم من وجود مئات الصحف والقنوات الفضائية العربية، التي كان من المفترض أن تمثل دعماً للعربية وانتشارها، فإنها من خلال لجوئها إلى استخدام اللهجات العامية، والأخطاء الكارثية في اللغة الفصحى التي ترتكبها، تمثل مصدر تهديد للغة العربية بدلاً من أن تكون مصدراً لدعمها. ومن مصادر الخطر الأساسية بالنسبة إلى اللغة العربية العمالة الأجنبية في البلاد العربية، وخاصة في البلاد النفطية، فبالإضافة إلى أن هذه العمالة أدت إلى إدخال الكثير من الكلمات غير العربية في اللغة العربية، فإنها ساهمت في خلق لهجات غريبة تجمع بين العربية والهندية على وجه الخصوص. وبالنظر إلى الاعتماد على المربيات الأجنبيات، خاصة الآسيويات، لتربية الأطفال، فقد أدى ذلك إلى إضعاف اللغة العربية بشكل كبير لدى النشء والشباب.
ضعف الإنتاج الفني العربي
أخيراً وليس آخراً، فإن ضعف الإنتاج الفني العربي، سواء على مستوى الأدب، أو المسرح، أو السينما، أو غيرها، يزيد من اندفاع العرب، وخاصة الشباب، إلى مشاهدة الأفلام والمسلسلات الأجنبية، وقراءة القصص والروايات وغيرها بلغات أجنبية، ما يساهم في إضعاف اللغة العربية في تشكيل وجدان الشباب وهويتهم.
ولكن هل تتحمل اللغة العربية نفسها جانباً من المشكلة، أم أن المشكلة في العرب؟ هناك من يذهب إلى تحميل اللغة العربية المسؤولية، ويرى أن صعوبتها، وعدم تطورها، والطرق البالية في تدريسها، مسؤولة عن الأزمة التي تعانيها، وأن العربية لا تصلح لكي تكون لغةً للعلم.
ولا شك في أنني، وكثيرين غيري من الغيورين على اللغة العربية، لا نستطيع إلا أن نتفق مع بعض ما سبق، فهناك مشكلة بالفعل في طرق تدريس اللغة العربية مقارنة بتدريس اللغات الأخرى تصعِّب تعلمها، وتحد من الإقبال عليها. كما أن مناهج اللغة العربية قديمة، ولا تخضع للتطوير تماشياً مع تطورات العصر. لكني لا أستطيع أن أتفق مع القول إن اللغة العربية لغة صعبة التعلم في ذاتها، أو أنها لا تصلح لغةً للعلم. فإذا كانت اللغة العربية صعبة، وهي ذات ثمانية وعشرين حرفاً، فماذا نقول عن اللغة الصينية، التي يقدَّر عدد حروفها بالآلاف، وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك إقبالاً على تعلمها من غير الناطقين بها، بمن في ذلك العرب أنفسهم، لأنها أصبحت لغة مطلوبة نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي الصيني؟ وفضلاً عن ذلك، فقد كانت اللغة العربية لغة للعلم على مدى عقود طويلة في فترة نهضة الحضارة العربية-الإسلامية، ونبغَ علماء عرب كثيرون في الرياضيات والطب والكيمياء والفلسفة وغيرها باللغة العربية، وأخذت منهم الأمم الأخرى هذه العلوم من خلال الترجمة عن العربية، بل إن هناك علماء غير عرب قدموا مساهمات علمية كبرى باللغة العربية إبَّان تفوق الحضارة الإسلامية، فكيف يُقال إن اللغة العربية لا تصلح لغةً للعلم الحديث؟!
تجربة الإمارات في تعزيز اللغة العربية
إن قوة اللغة، أي لغة، من قوة أهلها، وكما يقول العلامة ابن خلدون «إن غلَبَة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم». وضعف اللغة العربية من ضعف العرب، ففي عصور التقدم العربي كان هناك حرص على تعلم اللغة العربية في أوروبا والعالم كله، وترجمة العلوم والفلسفة العربية إلى اللغات الأجنبية، كما سبقت الإشارة. لقد كانت اللغة العربية في المقدمة حينما كان العرب في المقدمة، وتراجعت حينما تراجع العرب، فلا تظلموا اللغة، أو تحمِّلوها تخلف العرب، وخروجهم من المشاركة الفاعلة في الحضارة الحديثة.
لا شك في أن هناك محاولات مهمة على المستوى العربي للحفاظ على اللغة العربية ودعمها وتعميقها في عقول النشء والشباب، ولعل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، في هذا الخصوص، جديرة بالاهتمام والتأمل، فعلى الرغم من أن الدولة تشجع الانفتاح وتعلُّم اللغات الأجنبية الأخرى، بصفتها ضرورة للاطلاع على العلوم الحديثة وثقافات الشعوب المختلفة وحضاراتها، فإنها في الوقت نفسه حريصة على الاهتمام باللغة العربية، وفي هذا السياق يمكنني أن أشير إلى قرار مجلس الوزراء، في عام 2008، باعتماد اللغة العربية لغة رسمية في جميع المؤسسات والهيئات الاتحادية، و«ميثاق اللغة العربية» الذي أعلِن في عام 2012 بهدف تعزيز دورها وحضورها في المجتمع، والدور الإماراتي في دعم تعليم العربية لغير الناطقين بها، وإقامة المؤتمرات المعنية بدعم اللغة العربية، وأبرزها المؤتمر الدولي للغة العربية، الذي تستضيفه الدولة سنوياً، وغير ذلك الكثير من التحركات والمبادرات، ولعل أحدثها المبادرة الرائدة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في السادس عشر من أكتوبر 2018، وتمثلت في منصة «مدرسة» الإلكترونية التعليمية التي تتيح للدارسين الاطلاع على 5000 درس تعليمي باللغة العربية في مواد مختلفة، تشمل مرحلة رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر، وتستهدف ملايين الطلبة العرب حول العالم، وتعمل على تعزيز المحتوى العربي على الإنترنت.
العربية ودور «الإمارات للدراسات»
وعلى مستوى مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، فقد كنت وما زلت حريصاً بقوة على دعم اللغة العربية في كل أنشطة المركز وإصداراته، وأن تكون كل منشوراته بلغة عربية سليمة وسلسة. وفي عام 2008 عقد المركز مؤتمراً متخصصاً حول اللغة العربية بعنوان «اللغة العربية والتعليم: رؤية مستقبلية للتطوير». وإضافة إلى جهود دولة الإمارات العربية المتحدة هناك دول عربية كثيرة تقوم بدور مهم في الحفاظ على اللغة العربية، من خلال جامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها المتخصصة، لكن على الرغم من ذلك، فإن الطريق لا يزال طويلاً جداً، ويحتاج العمل من أجل دعم اللغة العربية إلى جهود عربية كبيرة ومتواصلة ومتسقة، وضمن رؤية شاملة في الوقت نفسه، خاصة أن الخطر عليها كبير ومتزايد ومؤكد ولا يمكن لأحد أن يشكك فيه، وأعتقد أنه لولا القرآن الكريم لكان حال اللغة العربية أسوأ بكثير مما هي عليه الآن.
تؤكد منظمة «اليونيسكو» أن نحو 2500 لغة قد انقرضت، أو في طريقها إلى الانقراض من بين 6000 لغة يتحدث بها سكان الأرض، وأن 234 لغة أصلية قد اختفت تماماً في القرن العشرين. ويمكن في أواخر القرن الحادي والعشرين استخدام لغات سائدة بدلاً من نحو 90 في المئة من اللغات الحالية. ولغتنا العربية الجميلة لم تعد بعيدة أبداً عن دائرة الخطر، خاصة إذا ما استمر معدل تراجعها على الساحة العربية بالشكل الذي هو عليه الآن، وحينها لن يجدي استجداؤها للعرب وتحذيرها لهم في الوقت نفسه في قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم الشهيرة «اللغة العربية تتحدث عن نفسها»:
فلا تكِلوني للزمانِ فإنني.. أخافُ عليكم أن تحينَ وفاتي.
جريدة الاتحاد