هل قصيدة النثر كلاسيكية تراثية؟ من الصعب ألاّ نأخذ كلام الأديب الكبير أدونيس على محمل الجدّ، فهو يرى أن النفري هو الأب الشرعيّ، الثابت بالحمض النوويّ الشكلي، لنهاية مطاف التجارب الشكلية في الشعر العربي. صوفيّنا الشهير محمد بن عبدالجبّار، المنسوب إلى بلدة نفر أو نيبور في محافظة القادسية العراقية، ، غمرنا بخضم رمزيّ عرفاني، رائعة تحليقاته: «المواقف والمخاطبات»، وهو عمل نادر المثال بل عديم النظير في ميراثنا النثري. ومضة أدونيس يسندها ألف دليل، وللقلم ألف مرمى من وراء إثارة هذا المبحث.
ما خفي على جلّ مثقفينا ونقّادنا، هو أن أهل التصوف، غير المغرقين في النظرية والتنظير، هم فنانون من الطراز الأوّل، ونخبة من المبدعين في الأدب، بصرف النظر عن المضامين وأحوالها وطبيعة بيئتها الفكرية والعاطفية والغائية. النفريّ حلقة فريدة، فحين نستعرض عناوين سفر «المواقف»، وهي قطع نثريّة أدبيّة، نرى فيها مجموعة «قصائد نثرية»، ذات فرادة أسلوبية مقصودة، فيها الإبداع والاحتراف العالي المتحلّي ببصمة وشخصيّة وهويّة، لم تنبثق مصادفة، ولم تحتلّ مكانتها اتفاقاً، ما تلخصه مقولة الأديب الفرنسي مالرو: «الفن هو ما يجعل من الشكل أسلوباً». خذ من العناوين: العزّ، القرب، الكبرياء، أنت معنى الكون، البحر، الأمر، المطلع، حجاب الرؤية، نور، التيه، الليل، قف إلخ. هذه المنهجيّة التأليفية تتجاوز الإبداع الفنيّ إلى مفردات العمل المعجميّ. ولا يغيبنّ عن الناقد الشكل الحواري المسرحيّ، بين العارف والذات العليا.
ثمّة إصرار على تفرّد التقنيات الفنية، لكن المواقف، وهي تقارب الثمانين، تحكمها قواعد بداية ونهاية، وعناية لغوية انتقائية. وكذلك المخاطبات التي تشارف على الستين. المقصود هو ما أوجزه بيتهوفن في أن«العبقرية 10%، الباقي كله عمل مُضن». الإبداع وراءه معاناة، وتفجير ينابيع تقنيات، لا مجرّد شطحات وتجليات، وبوارق ساطعات لامعات.
لزوم ما يلزم: النتيجة القياسية: هل توافرت الشروط كلها في قصيدة النثر، حتى تصحّ النسبة إلى الجذور النفريّة؟
جريدة الخليج