كلما قرأتُ عملاً من الأعمال التي تُمنح الجوائز الأدبية، أبحث بصورة عفوية عن اللاوعي الإنساني فيه، ولا أقصد بذلك الالتزام الآيديولوجي؛ لأنني لا أطيق فكرة الجدران والأسوار في الإبداع، إلا أنني لا أحبذ أيضاً أن يكون أي عملٍ كبير خالياً من الإضاءات الإنسانية، والوقوف مع الضعفاء، وتصوير الحالة البشرية على نحوٍ فني يثير في النفوس تعاطفاً دائماً مع قضايا الإنسان.
لعلّ أهم وأبهى مثالٍ على ذلك في أدبنا المعاصر، أعمال عظيمي الرواية نجيب محفوظ ويوسف إدريس. المبدع الأول كان ملتزماً فقط الفن وصناعة الروعة، والآخر كان ملتزماً الروعة والطبقات الكادحة. وذهب بعض السخفاء، أو السطحيين الذين لا علاقة لهم بأي إبداعٍ فكري، إلى اتهام يوسف إدريس بالعمالة للاتحاد السوفياتي. وإذا كان هناك من «مشغلٍّ» له بين الروس، فقد كان أنطوان تشيكوف. ولم يكن وحده من تأثّر بالأديب الروسي في مصر أو في خارجها من العالم العربي. فإن بعض المصريين – مثل عبد الله الطوخي وصنع الله إبراهيم – تماهوا مع تشيكوف تماهياً مطلقاً. ولم يخفِ الطوخي أن تشيكوف كان مثاله الأعلى والوحيد. وقد كتب يقول: «ما كل هذه البصيرة النفّاذة التي تكتشف ما تحت الجلد كأنها عين نسرٍ ترقَبُ وتكشف من أعالي القمم أدق تفاصيل ما يجري على أرض البشر وما يدور داخل أركان النفس الإنسانية. وما كل هذا المزيج الرائع الساري في قصصه بين الإنسان وبين الطبيعة حتى يتحولا إلى عنصرٍ كوني واحد. وأيضاً ما كلُّ هذا العشق للحياة حتى في مناطق الكآبة والألم: لقد غزا حب هذا الكاتب قلبي، وفي صحبته استعدت معه نغمتي الضائعة وتمنيّت لو أنني كنت أعيش في عصره، بل آهٍ لو أننا كنا نسكن مدينة واحدة».
لن نعثر اليوم على تشيكوف في روسيا المعاصرة أو على يوسف إدريس في مصر. لقد انتقلت صناعة الرواية إلى طورٍ مختلفٍ وبعيدٍ عن الأسلوب الذي كانت تكتب به في الماضي، عندما كان كبار الكتّاب يتأثرون إلى حدٍ بعيد بالنتاج العالمي ولم يكونوا يخفون هذه الحقيقة، فلطالما تحدّث نجيب محفوظ عن تأثّره بالفرنسي بلزاك والروسي تولستوي. فالرواية كما هو معروف فنٌ معاصر في الأدب العربي الذي كانت فيه الغلبة للشعر منذ العصور الأولى وحتى أوائل القرن العشرين. ولم نعد نعرف بمن يتأثر أدباء اليوم. أو إن كانوا يتأثرون حقاً إلى ذلك الحد الذي أقرّ به يوسف إدريس ونجيب محفوظ. وربما أنهم أيضاً يتأثرون الآن ببعضهم بعضاً. ولذلك؛ يُفتَقَدُ عند أكثريتهم ذلك العنصر الإنساني الذي قامت عليه روايات العمالقة.
جريدة الشرق الاوسط