تأكيداً لعمق العلاقة التي نسجها المغاربة مع محمود درويش، المبدع والإنسان، شكلت الذكرى العاشرة لرحيل شاعر «مديح الظل العالي» فرصة لاستحضار تجربة هذا الشاعر الفلسطيني الكبير، بمساهمة كتاب وتشكيليين، وذلك من خلال مظاهرة كبرى، أطلقها «بيت الشعر في المغرب»، بشراكة مع صندوق الإيداع والتدبير وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت عنوان: «محمود درويش في الرباط»، تضمنت على الخصوص ندوة ومعرضاً تشكيلياً، فضلاً عن صدور عدد خاص من مجلة «البيت»، بمشاركة مجموعة من الكتاب المغاربة والعرب، تصدرته صورة للشاعر الراحل، وعبارة «محمود درويش: أمشي كأني واحد غيري».
وتميزت ندوة «محمود درويش والتجربة الشعرية وآفاقها الجمالية»، التي احتضنتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بحضور رسمي ومشاركة كتاب، بينهم محمد الداهي وعلال الحجام ومحمد بودويك وأحمد هاشم الريسوني وعبد السلام المساوي ومحمد العناز وحسن مخافي وخالد بلقاسم ومحمد آيت لعميم وبنعيسى بوحمالة وعبد العزيز بومسهولي وحسن مخافي ونبيل منصر، أجمعوا على عمق العلاقة التي ربطت الشاعر الراحل بالمغرب ومثقفيه بشكل خاص، وعموم العالم العربي، كما استعرضت قيمته كمبدع عبرت تجربته عن انشغالات الذات وهموم الجماعة.
وكتب مراد القادري، رئيس «بيت الشعر في المغرب»، تحت عنوان: «محمود درويش: الأثر الشعري»: «طورني القارئ المغربي.. جُملة كافية لوصْفِ طبيعَة العلاقة الشّعْـريّة والإنْسانيّة التي ربَطت الشّاعِر محْمُود درويش بالمغَاربَة والمغرب، البلدُ الذي أحبّه وتطلّع دوماً إلى مُعانقَتِه والإصْغاء لنبْضِ جُرحِه وقلقِ قصِيدته، فيما درويش، هُو الآخر، كان لا يكُفّ عن التصريحِ: أشعر بامْتنانٍ خاصّ لكرم المغرب والمَغاربة، إذ دلّوني على رحَابة لُغتنا وآفاقها، وعلى سِعَة مكانِها وفَضائِها. ودلّونِي على امْتدادِ بِلادِي الصّغيرة، بما هي أرْضٌ وشعبٌ ومَعْنى وقصيدة، في المكانة الإنسانيّة الرّحبة، فقد عمّقُوا إحْسَاسِي بالمسؤُولية الجمَالية والأخْلاقية إزاءَ علاقَة الشّعر بالواقِع والتاريخ، واتّجاه مَكْـر الالتباس الجمِيل بين الشّعر والنّثر، وعلّمُوني كيف احتضِن المسَافة كي أتأمّل أكْثر وأكتبَ أقل».
وأضاف القادري، رابطاً رحيل الشاعر بتخليد ذكراه بالرباط، في الذكرى العاشرة: «قهر الشاعر محمود درويش الموت، وها هو بعد عقد من الزمن، يطلّ علينا من قصيدته ليُبلغنا السّلام، ويجدّد قولته: لقد طورني قارئي هنا في المغرب، حين صدّقَني، فقبل اقْتراحاتي الجمالية المتواضعة، بغضّ النظر عن الإفراط في التأويل الرّمزي لصُورة الشّاعر».
وتحدث القادري عن المعرض المنظم برواق الفنون التابع لمؤسسة صندوق الإيداع والتدبير، تحت عنوان «ورد أكثر»، الذي يتواصل إلى غاية 12 يناير (كانون الثاني)، بمشاركة ثلاثة فنانين، هم: عزيز أزغاي، وفؤاد شردودي، وعبد الله الهيطوط، والذي يسعى إلى «استعادة الأثر الشعري لمحمود درويش» عبر اللوحة الفنية: «هُم ثلاثة فنّانين مغاربة، يُبادِلُون صاحِب «ورد أقل» بـ«ورد أكثر»… اخْتاروا أن (يُطوّرُوا) محمُود درويش، وأنْ ينْظُروا إلى مُنجَزه الشّعري الباذِخ من زاوية مُخْتلفة عن تِلك التي دَرجُوا على النّظر من خلالها للشّاعر ولشِعْره. فقد أثْمـرت قراءتُهم له، واحتكاكُهم به، رؤية فنيّة وجمالية بمقْدُورها أنْ تُغْني شِعْرية درويش، وتُضيءَ جوانبَ من مَساره الشّعْـري والإنساني».
وأبرز القادري أن التشكيليين الثلاثة استطاعوا في هذا المعرض «السّفـر بالنّصّ الشّعري الدرويشي بعيداً عن المنْشأ الذي وجِدَ فيه، أي الكتاب والديوان. وحملُـوه عبر وسائط فنيّة جديدة تقومُ على اللّـوحة، وتسْتعمِلُ التشويش كآلية ممكنة لإنطاقه وتقويله ما كان يُـضمره بين دفتي الديوان».
وعن مشاركته في «ورد أكثر»، قال أزغاي: «محمود درويش من طينة الشعراء الذين تجاوَزوا كونهم يبدعون قصائدَ شعريّة، بل أصبحوا يُشكّلون ظواهرَ إبداعيّة خلاّقة إنسانيّة عابرَة للأزمنة، ومُتجاوزة للخُصُوصيّات الثقافيّة واللغويّة. إنّهُ، بهذا المَعْنَى، أحد الأيقونات التي كُنّا ولا نزال نُغذّي بها ذائقتَنا الإبداعيّة والجَماليّة والفنّيّة. ولا أعتقدُ أنّ هُناك شاعراً أو فنّاناً لم يُؤثّر فيه درويش، بهذا القدْر أو ذاك، شِعْريّاً وإنسانيّاً وحُضُوراً يَمْلأ الفضاءَ ويَفتنُ النّظرة».
من جهته، قال شردودي إنّ تَصَوُّره لاستحضَار محمود درويش تَشْكيليّاً «نابعٌ مِنْ عَتَبَات القراءة القُصْوَى لنَصّه، فأحياناً يكونُ العمَلُ اصْطِحَاباً ومُصَاحَبَة، وأحياناً أخْرَى أعطى لنَفْسي فُرْصَة استئناف المتَخَيّل بَصَريّاً، بحيث تصيرُ الجُمَلُ الشِّعْريّة كُتَلاً لوْنيّة وخُطُوطاً وأشكالاً يُهَنْدِسُ أفُقَهَا ذلك الإيقاعُ التجريدي النابض في عُمْق النّصّ عبْرَ امْتلاءاتِهِ وفَرَاغَاتِه. كان نصُّ درويش مخبراً بَصَرَياً غَنيّاً ومُدهشاً بالتفاصيل والدلالات. ولأنّ صُورَة درويش الشاعر طُبعَتْ في ذاكرتي البَصَريّة، عبر ما كان يَحملُهُ ذلك الوَجْهُ مِنْ قَلق ومِنْ حَساسيّة أيضاً، فقد انْجَذَبْتُ إلى تَأَمُّل بورتريه الشاعر عبْرَ حوارات لَوْنيَّة مُتَحَرِّرَة، تُحاولُ خَلْقَ تَمَاهٍ بَيْنَ النّصّ – القصيدة والبورتريه – الشاعر».
في حين قال الهيطوط إن «محمود درويش شاعرٌ كبيرٌ، استعادَتُهُ بالرَّسْم والصِّبَاغة ستكُونُ شيىئاً مُهمّاً ودالاًّ في الوَقت نفسه، لِمَا قدَّمَهُ للفَنّ والشِّعر والجَمَال. كرسَّام أنا مَدينٌ للشِّعْر بالشَّيْءِ الكثير. أحبُّ الشّعر، ومحمود درويش كان دائماً بالنِّسبة إليّ واحداً ممنْ ألْهَمَتْني أشعارُهُم وأوْحَت لي بالشَّيْء الكثير. درويش اسم كبيرٌ في مجال الإبداع والفنّ، وبذلك كان وسيَظَلُّ مُلْهِماً لجيلي وللأجْيَال القادِمَة».
يشار إلى أن درويش سبق له أن زار مدينة الرباط، حيث استمتع المغاربة بقراءاته الشعرية، قبل أن يقرأوا له كلاماً جميلاً في عاصمتهم، في عدد من كتاباته، بينها يوميات «أثر الفراشة»، حيث نقرأ: «في مدينة الرباط، المرفوعة على أمواج الأطلسي العالية، يمشي الشاعر على الشارع بحثاً عن مصادفة المعنى وعن معنى المصادفة. يعرف النخيل جيداً، ويسأل المارة عن أسماء الأشجار الأخرى، حاملة الجَمْر، دون أن يحصل على جواب واحد، كما لو أن الشجر وجهة نظر أو استعارة. لكن المارة يسألونه عن وجهة الاستعارة في قصيدة ما نسي أنه كاتبها، فلا يقدم جواباً واحداً، كما لو أن الاستعارة شجرة مجهولة الاسم. من تحية إلى تحية، يمشي الشاعر على الشارع كأنه يمشي في قصيدة غير مرئية، يفتتحها شيخ مغربي ينحني على كسرة خبز… ينفض عنها التراب، ويقبّلها ويَدّخرها رزقاً للطيور في ثغرة جدار. ولي… في مدينة الرباط مكان شخصي هو مسرح محمد الخامس. هناك تمتلئ نفسي بما ينقصها من ضفاف. ما أعرفه عن نفسي – وهو قليل – يكفي لأن أتوحد مع هذا المعبد المفتوح لمفاجآت الإلهام. كأني هناك لا أقرأ ولا أنشد، بل أرتجل ما يملي عليّ الصمت والضوء الخافت والعيون التي ترسل الإشارات، فأصوغها في عبارات، وأعيدها إلى أيد تمسك بها كما لو كانت مادة شفافة مصنوعة من هواء. كأني أقرأ شعر غيري، فأطرب لأنه شعر غيري، وأنا لا أنا إلا بقدر ما يكون الشعر هو الشاعر. لكني أسترق النظر إلى فتاة تضحك وتبكي في ركن القصيدة القصيّ.
فأبكي وأضحك لها متواطئاً معها على فتح أبواب المسرح للتأويل. وللمغاربة أن يقولوا: نحن من أوحى إليه!».
جريدة الشرق الاوسط