الانتماء إلى اليسار عند المثقف العربي والمغاربي تجربة عابرة وكأنها مرور إجباري في الحياة
هل الشعر مرض عربي؟
يبدأ المثقف العربي رحلة وعيه الشقي في قراءة وتفكيك العالم المعقد من حوله، العالم الذاتي الصغير أولاً، ثم العالم الأوسع السياسي ثانياً، من خلال بوابة ممارسة كتابة الشعر، وكلمة “الشعر” هنا لا تعني مطلقاً “الكتابة الشعرية” الواعية بشروطها الجمالية والفنية واللغوية، إنما هي عبارة عن لعبة بلاغية تستند إلى انفعالات أسلوبية كتابية عادة ما ترتبط بوهم “الحب” و”خيبة التجربة العاطفية”، وفي كثير من الحالات هذه التجارب المكتوبة بـ”تأوهات” لا حقيقة لها في الواقع، بل هي عبارة عن قياس على تجارب الآخرين، لذا يبدأ الشعر في تغييب الواقع والكذب عليه وخيانته منذ بداية الرحلة مع الثقافة.
ويلتقي المثقفون العرب جميعهم، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين، حول مرجعية مركزية واحدة شكلت قراءتهم الإبداعية المؤثرة ويمكن اختزالها في أربعة كتاب وهم جبران خليل جبران وإحسان عبد القدوس والمنفلوطي ونزار قباني. وهي الكتابات التي مثلت رحلة القراءة وعملت على شحذ الوعي لدى هذه النخب. وهي كتابات تتأسس على خطاب تجييش العاطفة أكثر منها توليداً فعل العقل.
حين نسمع بالمقولة التي تردد ها هنا وها هناك “إن موريتانيا بلد المليون شاعر”، على سبيل المثال، فما معنى هذه العبارة الخطيرة؟
بهذا التوصيف للتركيبة البشرية في هذا البلد، وبهذا المنطق يكون عدد المثقفين فيه يفوق المليون، حتى وإن كان هذا العدد هو من باب الرمزية، فإنها رمزية تدل على الكثرة الوافرة وعلى الافتخار والتميز الثقافيين، وهي الكثرة التي تؤكد أن الأنتلجانسيا التي ترتبط بالشعر، الذي من المفروض أنه هو أساس الخلق والتغيير والحرية، هي أنتليجانسيا غير فاعلة وغير مغيٍّرة في أحوال الناس والبلد، لأن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تحيل عليه هذه المقولة في هذا البلد هو واقع غارق في التخلف والقبلية وحتى العبودية التي لا تزال حتى الآن منتشرة، إذن فوصف بلد بأنه “بلد المليون” شاعر لا يعني سوى تكريس ارتباط الشعر بالتخلف والتقليدية والتبعية والعبودية. أي الشعر غير المحرِّر.
وفي بلدان عربية أخرى يقال “بلدُ كلِّ نخلةٍ بشاعرٍ” وهي أيضاً مقولة تحيل على كثرة الشعراء، وحين ندقق عن أحوال هذا البلد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية سنجده يغرق في الأمراض والتخلف والحروب.
مرض العاطفة الجياشة
حين يمارس الشعر حصاراً بطريقة غير تاريخية، يصاب المثقف أو مشروع المثقف العربي بداء “العاطفة الجياشة”، وستتأكد هذه الحالة المرضية من خلال دخول المرأة التجربة الحياتية لهذا المثقف، وسنكتشف ذلك أكثر في الكتابة التي تكتب المرأة، المرأة كإنسان وكجسد وكشريك في بناء الحياة والطبيعة، فالمثقف العربي بشكل عام لا يقيم علاقة سوية مع المرأة، لذلك نراه يلجأ إلى اختصار صُوَّرٍها في صورة واحدة هي صورة “الأم” التي تنوب عن جميع “النساء”، فهي تنوب عن الحبيبة والعشيقة والزوجة والصديقة والرفيقة، والاتكاء على صورة “الأم” هو خوف من مواجهة “المرأة” في تجلياتها الإنسانية والجسدية الشاملة.
لذا أنتج المثقفون العرب، بشكل عام، خطابين متوازيين ومتكاملين عن المرأة في السياسة والاجتماع والأخلاق، خطاب ينطلق من “ملائكية صورة الأم” وبالتالي هو خطاب “بَكَّاءٌ” “حنَّانٌ” “اعترافي” “تقديسي”، خطاب يعكس حالة “عقدة أوديب” التي يعيشها المثقف العربي، وهو أيضاً خطاب “صفوي” يغيب عنه الحس النقدي الموضوعي.
وأما الخطاب الثاني عن المرأة فيتميز بالهوس الجنسي، فكل ما في المرأة هو “الغواية” و”الملذة” و”الإنجاب”، فمركز الاهتمام والانشغال الذي يحرك المثقف هو الهوس الجنسي، وبالتالي فجميع النساء “عاهرات” باستثناء “الأم”، والحالة الهوسية والمهووسة في الثقافة لا يمكنها أن تفرز علاقة ناضجة وسليمة في المجتمع. وهو ما نلاحظه اليوم في مجتمعاتنا العربية والشمال إفريقية إذ لا يزال “الحديث عن أخلاق المرأة وعن جسدها وعن لباسها” هو المدخل الأساس للحديث عن جميع المشاكل التي يعيشها المجتمع العربي والمغاربي، فثلاثة أرباع خطب الأئمة على المنابر هي خطب مرتبطة بالمرأة التي هي سبب التخلف في نظرهم، فالشَّعْرُ غير المغطى والسروال الضيق والقميص المفتوح والتنورة القصيرة هي الأمر الذي يجعل الاقتصاد ينهار! إن المواطن العربي والشمال إفريقي يفقد السيطرة على عقله وتختلط عليه كل الحسابات بمجرد مشاهدة امرأة تمشي إلى عملها بجسد هو ملكها تتصرف فيه كما تشاء.
لقد تمت تربية هذا المثقف “صاحب العاطفة الجياشة” و”المصاب بعقدة أوديب”، و”المهووس بجسد المرأة”، كما تُربى أسماك الأحواض الاصطناعية، داخل سلسلة ثقافية وسياسية واجتماعية مغلقة ومعطوبة، فسبب تشكل هذا الوعي الزائف تاريخياً واجتماعياً وسياسياً عند المثقف العربي والمغاربي هو هذه الدائرة المغلقة من المؤسسات غير الصحية التي تحاصره في الدين والتعليم والحزب، فهي مؤسسات حتى وإن بدت مختلفة إلا أنها تتبادل الأدوار ذاتها في محاربتها وعداوتها للمرأة وللحداثة وللاجتهاد وللتعددية وللديمقراطية، فالمؤسسات التي يرتادها المثقف والتي صاغت فكره وقلبه وعقله لا تقدم له من القيم سوى “الرديء” أو “المقصوص” أو “الناقص” أو “المراقب” أو المعادي للآخر، فالمثقف العربي يتشكل وعيه ما بين “الممنوع” و”الحرام”، وسيكبر هذا المثقف ليصل في مرحلة معينة إلى قناعة غريبة وهي إحالة “عقله” على التقاعد المبكر والاستسلام إلى “المؤسسة” كي تفكر نيابة عنه، وبالتالي تصبح حياته وكأنها ليست ملكه، إنه في حياة “استعارها” بشكل مؤقت.
مرض اليسار
يبدأ المثقف العربي والمغاربي عادة تجربته في الحياة السياسية ودفاعاته الأيديولوجية من خلال انتسابه إلى أحزاب أو جمعيات أو حلقات أو تيارات يسارية، شيوعية أو اشتراكية أو ماوية أو تروتسكية، وهي عادة تكون محظورة، وكل محظور مرغوب.
يمارس هذا الانتماء بشكل شعري، حيث لا يتنازل عن “العاطفة الجيّاشة” في السياسة أيضاً، يغرق في “هوس” اليسار بالهوس ذاته الذي يتعامل به مع “الشعر” والهوس المرضي ذاته مع “جسد المرأة”.
وفي هذا الانتماء العاطفي المراهق (المراهقة هنا لا علاقة لها بالعمر) يبدو الانفصام في الشخصية واضحاً، فالمثقف العربي على المستوى السياسي هو يساري شيوعي ولكن على مستوى السلوك الاجتماعي هو “شيخ فقيه”، فكثير من اليساريين العرب يدعون إلى حرية المرأة ولكن نساءهم محجبات، فالنضال مثل الحذاء يجب خلعه عند باب البيت، يوجد كثيرٌ من بنات مثقفي اليسار قد تعرضنَ لعملية بتر العضو الجنسي (ختان المرأة) مع أنهم يقدمون خطابات في إدانة هذا الفعل اللاإنساني، فكيف يمكن التوفيق بين الانتماء إلى أيديولوجيا تكرّم المرأة وتضعها في خانة المساواة مع الرجل وممارسات اجتماعية بدائية تقتل في جسد المرأة جزءاً مهماً من إنسانيته وخصوصيته؟
لذا يبدو الانتماء إلى اليسار عند المثقف العربي والمغاربي تجربة عابرة، وكأنها مرور إجباري في الحياة كما هي تجربة “كتابة الشعر” أو كأداء الخدمة العسكرية، وهي تجربة لا تترك أثراً كبيراً في الممارسات الثقافية والفكرية لاحقاً.
من غيفارا إلى الفقيه
لذا نلاحظ ظاهرة مرضية غريبة لدى النخب في المجتمعات العربية ومجتمعات شمال إفريقيا، فهي في غالبيتها وعلى اختلاف الأقنعة الفكرية والأيديولوجية التي لبستها وتلبسها تنتهي في الأخير إلى محطة “الفقيه”، اليساري الذي لطالما رفع شعارات “المادية التاريخية” و”ديكتاتورية البروليتاريا” و”حرية المرأة” واستظهر كثيراً من النقد للفكر الغيبي المثالي اللاهوتي ينهي حياته “فقيهاً”، أو متلبساً بصورة الفقيه، ففي العالم الآخر يبدأ الفلاسفة الغربيون رحلاتهم مع الفكر عادة بالمثاليات ليصلوا في نهاية المطاف إلى الماديات، يبدؤون بالإيمان الساذج لينتهوا إلى الأسئلة الفلسفية العميقة والمعقدة حول الكون، إلا العرب فهم يبدؤون شعراء أو مراهقين ماديين فكرياً وينتهون فقهاء غيبيين قدريين.
www.independentarabia.com