من حق الوكيل أول سالم البدواوي، أن ينال من التكريم ما يستحقه، فقد قام بعمل نبيل، تجاوز الواجب الذي يجب أن يؤديه، بصفته مأمور جوازات في منفذ حدودي، هو منفذ حتا التابع للإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب بدبي.
حكاية المواطن الإماراتي سالم البدواوي مع المواطن السوري فاتح العابد، أصبحت معروفة ومتداولة في أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن حكاها العابد لبرنامج «البث المباشر» في إذاعة نور دبي، فأمر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بترقيته، ووصفه بأنه «موظف حكومي، ومواطن إماراتي، ورجل يحمل معاني الشهامة الإماراتية».
هذه الجوانب من الحكاية رائعة وجميلة، أثارت اهتمام الجميع، وجعلتهم يشيدون بتصرف البدواوي، الذي لم يسعَ من ورائه إلى الترقية أو الثناء أو الشهرة.
ولكن دعونا نتساءل: لماذا أثارت حكاية سالم البدواوي كل هذا الاهتمام، وأصبحت حديث المدينة؟ هل لأن ما قام به من عمل كان خارجاً عن المألوف، أم لأن المألوف هو الذي خرج من حياتنا، ولم يعد له مكان بيننا في هذا الزمن الذي خرج عن السيطرة؟
لا شك في أن اختلاف الأزمنة كفيل بتغيير بعض مفاهيم وأخلاقيات البشر، لكن هذا لا ينفي أن هناك ثوابت لا يمكن أن تختفي من الحياة تماماً، مهما تغيرت الأزمنة وفرضت الظروف نفسها على الذين يعيشونها، أو تبدلت مظاهر الحياة من حولنا.
من هذه الثوابت الشهامة التي هي صفة أصيلة في البشر عموماً، وفي أبناء هذه الأرض على وجه الخصوص. وحين نستعيد أحاديث آبائنا وأجدادنا عبر الزمن، نجد فيها الكثير من موروثنا الشعبي الزاخر بالقصص الجميلة المعبرة عن أصالة أبناء هذه الأرض، ورسوخ هذه الأخلاقيات والقيم لدى أهلها.
ومنها قصة ذلك البدوي الذي جاء إلى المدينة للتبضع، ونفد منه ماله قبل أن يكمل شراء ما يحتاج إليه، فقام بانتزاع شعرة من لحيته، ووضعها رهناً لدى البائع حتى عودته بالمبلغ المطلوب، فما كان من البائع، إلا أن قبل بالشعرة ضماناً لحقه، وسلمه البضاعة المطلوبة، ليذهب البدوي إلى الصحراء حيث يقيم، ويغيب شهوراً، قبل أن يعود إلى المدينة بالمبلغ المطلوب، ويسترد شعرة لحيته من البائع الذي رهنها لديه.
حدث هذا في زمن بعيد، كانت وسائل التواصل فيه شبه مقطوعة، إلى الدرجة التي لا يمكن فيها للتاجر أن يصل إلى البدوي أو يعرف مكانه، فتحولت حكاية البدوي مع التاجر إلى شبه أسطورة، يحكيها الآباء والأجداد لأبنائهم وأحفادهم، ويضربون بها المثل على الثقة والوفاء، حتى جاءت حكاية البدواوي مع العابد، التي حدثت الأسبوع الماضي، كي تقاربها في المعنى، وتختلف عنها في التفاصيل والظروف، حيث بإمكان البدواوي أن يتواصل مع العابد ويعرف مكانه بأكثر من وسيلة.
هنا، نتوقف عن البحث في الملابسات، لنذهب إلى الفكرة والمغزى من الحكايتين، وهما الثقة والوفاء أولاً، ثم عدم التواني عن تقديم المساعدة لأي أحد، حتى لو لم يطلب هذا الأحد مساعدته، لكن الموقف يقتضي تقديمها.
وهنا نتوقف أيضاً عند الأخلاقيات والقيم التي يرى البعض أنها قد تراجعت، ولم يعد لها مكان بين البشر في هذا الزمن، الذي طغت فيه المادة، وأصبحت هي الهم الشاغل للجميع، فكيف استطاع البدواوي أن يعيد الزمن إلى الوراء، كي يتصرف بشهامة يحسده عليها الكثيرون، ويتمنون لو أنهم تحلوا بها في هذا الزمن، الذي تفرض طبيعته على أغلب البشر التصرف بكثير من الأنانية والشك والريبة؟
لا نعتقد أن الأمر يحتاج إلى أكثر من التحلي بالثقة التي دفعت ذلك البائع الحضري إلى قبول شعرة لحية البدوي ضماناً لحقه من المال، ودعت البدواوي إلى تقديم سيارته للعابد ليواصل رحلته إلى سلطنة عمان، كي لا يفسد عطل سيارته على أطفاله وأسرته خطة الاحتفال بالعيد وبهجته، فأين ذهبت تلك الشعرة التي تربط البشر ببعضهم، وتجعلهم يتصرفون بتلقائية تتفق مع الأخلاق والقيم التي غرستها فيهم الفطرة السليمة، والأديان السماوية، والعادات والتقاليد الموروثة عبر الزمن، كي تجعل من الحياة واحة للخير والبناء والنماء، لا غابة للشر والهدم والبغي؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه مثل هذه الحكايات، القديم منها والجديد، وتصبح بذلك أساطير تتناقلها الأجيال عبر الأزمان كلها.
جريدة البيان