للكتابة سحر أخاذ قادر على جذب القارئ من أول سطر بالصفحة الأولى، من أول تلامس ما بين نظرة العين وقوة المسطّر على الورق، وليس كل كاتب يمتلك مفاتيح سحر الكتابة وسطوتها، القلة فقط هم من يملكون هذه القدرة الساحرة الآسرة الجذابة التي تستولي على قلب ولبّ القارئ من التصفح الأول، ولا تتركه يفلت من منها إلا وهي بصحبته بكتاب يحمله بكل شوق ولهفة لمتعة قراءته.
ونادراً ما أقع بشبكة سحر الكتابة، لأنها فن حقيقي، وهبة من الله لا يملكها إلا القلة النادرة من الكتاب، مع كثرة من يكتبون وما تطفح وتفيض به أرفف المكتبات، إلا أن معظمها كتابات لا تملك سحر الكتابة مهما حوت من قصص وحكايات وتقنيات ومواضيع مهمة ومختلفة، لكنها للأسف لم تملك تلك الجاذبية الساحرة للكتابة.
فما المقصود بسحر الكتابة؟!
الكل قادر على الكتابة، لكن الكتابة عصيّة لا تمنح سرها وسحرها لكل من يكتب، صحيح هناك كتابة لكنها فاقدة لجاذبية لبها السري، ذلك الوهج المشع من روحها، من طاقة حروفها المؤثرة الحية التي تجعل القارئ كلما تلامست عيناه مع حروفها أحس بأنها تنبض و”تلبط” مثل سمك حي لا يموت بالوصول إلى الصفحة الأخيرة، لأنها بكل بساطة لا تموت وسيتقافز سمكها الحي كلما فُتح الكتاب، وهذا هو سر سحرها يكمن بقوة طاقتها.
أقول هذا الكلام بسبب قراءتي لـ 6 صفحات من “سيرة أثر” لكاتبة إماراتية لا أعرفها ولم أقرأ لها أي شيء من قبل، وهذا للأسف أمر وارد بين الكتاب، وربما هي أيضاً لا تعرفني ولم تقرأ لي، وبالصدفة وأنا أتصفح مجلة الرافد قرأت السطر الأول من الصفحة الأولى، وإذا بي أقع تحت أسر سحر كلماتها الحية النابضة، وكنت مشغولة بإعداد حقيبة السفر، فقطعت الورقات الأربع واصطحبتها معي، نسيتها فترة في سحاب الحقيبة وعندما اكتشفتها قررت أن ألقيها، وعندما وقعت عيناي على السطر الأول أسرتني سيطرة سحر طاقة الكلمات فجلست أقرأها، وبصراحة اندهشت من لسع جمرها ولذة القراءة الحسية الآتية من الحواس بأجمعها، لا تترك للقارئ فرصة للتخلي عنها لأنها تشتبك مع وعيه وأحاسيسه بذات الوقت، وهذا مقتطف من الورقة الأولى يصف مهنة الوالد النجار، وإن كان السحر ينشع من الصفحات الست: “البيت كله لأخشابه، وصوت البيت كله له، يستند البيت على يديه، ولأجل فكرته يصير البيت ميناء للفكرة أو غابة من الضيوف، وكل ماله حضور وحياة ورائحة وادخار يقف احتراماً لخلوته مع الخشب، وليس في بال الخلوة غير الطريق إلى فكرته. لا أهدأ… سأظل أذكر ذلك النجار، لا ترتاح عيني إلا بتذكر عيدان أصابعه الدقيقة، خزانات عطر من خشب وماء بين ثنايا الأصابع، أمزجة رطوبة وعرق متداخل، رائحة لوح من مركب خشبي يمتزج بملح البحر، ويعجبني أن أكون كأعياد الماء داخل أنسجته حين يعطش أو ينادي في البيت بالغوث، صارم في ارتوائه، يتغير مزاجه كل لحظة مع كل همسة ذهنية للخشب”.
النص على الرغم من أنه لا يتعدى الـ 6 صفحات فإنه مكثف ومكتنز وكأنه رواية قصيرة، أو ربما هذا ما ستكون عليه الرواية القصيرة المستقبلية، يحكي بمشاهد وصور شعرية عن مهنة الأب النجار في ذاك البيت القديم الطراز برأس الخيمة زمن السبعينيات والثمانينيات، وعادات ذاك الزمن البسيط الجميل، والأم الخياطة تسحب الخيط من عين الإبرة، وقد صار الخط المستقيم الواحد خطين متطابقين، وهذا الخط المستقيم يتكرر ذكره بمفاصل كثيرة من حياة الكاتبة بوجهات نظر مختلفة، من الزمن القديم إلى التحولات الدينية التي سيطرت فيها الجماعات الإسلامية على المجتمع بعد ذلك “وبدأت كل الأبواب والجدران توصد بالصمت والأسرار والمحظورات والرضا بالقدر، بذريعة التدين”. ” إلى أن يأتي زمن الكتابة لكن الكثيرات لم يتحررن” الطيور التي تولد في القفص تعتقد أن الطيران جريمة”.
تبرر تراجعهن بسبب:” ولدنا ما بين عتبتين، ما بين جيلين، ولدنا في السبعينيات بمتلازمة الجيل الأوسط الذي وعى على ضوء النهضة والاتحاد والعمران، لكنه في المقابل ودون أن يشعر نشأ على قمع الفكر والسؤال، وحين فتحنا أعيننا على الوسط الثقافي في أواخر التسعينيات لم نجد إلا فجوة تتسع”.
لولوه أحمد المنصوري كاتبة إماراتية تمتلك صك سحر الكتابة.
جريدة الجريدة