للوهلة الأولى حين يُذكر اسم الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، يذهب الفكر الى شاعر اختار العيش في برج عاجي مسكوناً باللغة يبتعد من السياسة وشجونها وتضاريسها الى أقصى الحدود. بيد أن الصورة غير صحيحة على الإطلاق. وربما ساهم في نشرها، لدى المثقفين العرب في سنوات الستين من القرن العشرين، بشكل خاص، معجبون عرب بهتلر ونازيته حدث لهم أن اكتشفوا قوة شاعرية سان جون بيرس وعمق لغته، فـ «تناسوا» مواقفه السياسية التي كلفته باهظاً ورمته ذات يوم في المنفى الأميركي، بعدما أدت إلى تجريده من جنسيته الفرنسية من قبل حكومة فيشي الموالية للألمان. وبفعل ذلك التناسي، غاب ذكر صاحب الموقف السياسي من التاريخ المتداوَل لسيرة سان جون بيرس، وبالتالي غُيّب الكثير من مضامين شعره ولا سيما من المعاني التي حمّلها الشاعر نفسه لواحدة من أجمل وأقوى مجموعاته الشعرية وهي تلك التي تحمل تحديداً عنوان «منفى». وتقول لنا سيرة سان جون بيرس المسكوت عنها في بعض الأحيان، أن هذا الشاعر الكبير الذي كان توقف منذ صدور قصيدته الكبرى «آناباز» في العام 1924 عن كتابة الشعر مستعيداً اسمه الحقيقي آلكسي ليجيه ليجيه بعدما اتخذ لنفسه اسمه المستعار كشاعر – سان جون بيرس، إنما سجل بقصائد «منفى» التي أنجز صياغتها منذ وصل الى منفاه الأميركي، بين العامين 1941 و1943، عودة الى إبداعه الشعري إذ طرده الفاشيون الفرنسيون من منصبه الدبلوماسي وعلى الأرجح بناء على أوامر أصدرها هتلر بنفسه.
> ولكن لماذا هتلر بنفسه؟ الجواب بسيط ويشكل جزءاً من التاريخ المشرّف للشاعر. فهو شارك العام 1938 في مفاوضات ميونيخ التي ستشتهر بكون الغرب، بما فيه فرنسا، قد أذعن خلالها لمطالب هتلر وتراخى معه ما اعتُبر عاراً على كل المشاركين. ولكن باستثناء ألكسي ليجيه الذي يُروى أنه تصدى لهتلر شخصياً ورفض كل حججه، ما أثار ضغينة الفوهرر الى درجة أنه ما إن احتلت قواته فرنسا ونصبت الماريشال الخائن بيتان رئيساً عليها، حتى اتخذ هذا الأخير سلسلة من الإجراءات في حق الشاعر ما دفع هذا الى مغادرة وطنه إسوة بالمئات من الفنانين والمفكرين والأدباء الفرنسيين الأحرار الذين رفضوا التراخي مع النازيين. ولئن كان كثر من المبدعين الفرنسيين قد عرفوا كيف يتعايشون مع الحياة الثقافية في أميركا ولم يعتبروا أنفسهم منفيين، في هوليوود بالنسبة الى السينمائيين منهم، أو في نيويورك بالنسبة الى الرسامين والأدباء، فإن حساسية سان جون بيرس الشاعرية جعلته، هو الذي سوف تطول فترة منفاه الى نحو خمسة عشر عاماً، على أي حال، يعتبر نفسه نزيل منفى أدنى الى السجن والقبر أكثر منه الى أي شيء آخر. وهنا قد يجدر بنا أن نوضح هذا الأمر لكي لا يخيّل الى القارئ أن جون بيرس كان من الشعراء «الوطنيين» الذين لا يطيب لهم العيش أو الكتابة إلا في مسقط الرأس. على العكس… هو كشاعر كان يعتبر نفسه منفياً في كل مكان، بحيث إن شعره السابق على مجموعة «منفى» وشعره اللاحق عليها إنما كان دائم التعبير عن فكرة المنفى وعن غربة الشاعر عن أي مكان. لكنه هنا في المجموعة التي أعادته الى الشعر يوم وجد نفسه منفياً عن تاريخه وعن اسمه ولم يبق له من ملجأ سوى لغته، راح يعبّر عن ازدواجية النفي بلغة تصل ما كان انقطع بينه وبين لغته/ وطنه منذ توقف، موقتا إذاً، عن كتابة الشعر مع تدبيجه آخر سطر في رائعته «آناباز».
> مهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة هنا ومنذ البداية، الى أن مجموعة «منفى» ليست- لغوياً- على السهولة التي قد يمكن لنا أن نتوقعها. فالمجموعة التي تتألف من سبعة أجزاء – والتي شرع الشاعر في تدوين سطورها الأولى حين كان مقيماً في نيوجرزي لدى عائلة صديقه المحامي ووزير العدل فرانسيس بيدل الذي تعرف إليه من خلال زوجة هذا الأخير الشاعرة الأميركية كاثرين غاريسون كما من خلال الشاعر أرشيبالد ماكليش الذي كان صديق الطرفين ويشغل في ذلك الحين منصب المدير العام لمكتبة الكونغرس الأميركي، هذه المجموعة كانت طريق الشاعر ليعود الى هواه الأول في حياته: اللغة. تلك اللغة التي كانت سلاحه في معركته ضد تفاهة الوجود وحمق البشر وغوصهم في الحروب والكراهية. ولأن هذه المواضيع ليست من النوع الذي تسهل مقاربته بالنسبة الى شاعر كان قارئه يحتاج الى الاستعانة بالقواميس والموسوعات كي يلمّ بكل ما يريد التعبير عنه منذ أشعاره الأولى، كان من الطبيعي أن انقطاعاً دام عقداً ونصف العقد عن كتابة الشعر، ولكن ليس عن خوض الحياة العامة ودهاليز السياسة والدبلوماسية التي تكشف خفايا النفوس الإنسانية، ناهيك بالتطورات التي عرفها العالم خلال تلك الفترة الصعبة الفاصلة بين الحربين العالميتين، مثل ذلك الانقطاع سوف يجعل لغة الشاعر أكثر تركيبية وتعقداً من ذي قبل. فهل نضيف الى هذا، الدروس التي يمكن أن تكون الدبلوماسية نفسها قد علمته إياها ما نتج منه مواربة في الصياغات وتعرجات في سلوك درب المعاني؟
بالتأكيد. ومن هنا ما يقال عادة من أن عدداً كبيراً من الدارسين والنقاد الذين تناولوا بالدرس والتأويل، قصائد منفى، لم يخفوا حيرتهم أمام تفسير ما يقرأون، بل حتى تناقضهم أمام ما يمكن أن تعنيه كلمة واحدة تأتي في سياق معين، فإن أتت في سياق آخر احتاجت تأويلاً جديداً وقفزاً في مجهول اللغة وتساؤلاً عما هو مسكوت عنه وما إلى ذلك. ومن هنا لن يكون غريباً أن نجد عدداً من الدارسين والنقاد يربطون قصائد «منفى» بسيرة سان جون بيرس نفسه، وتحديداً بذلك الجزء من سيرته الذي افتتحنا به هذا الكلام واضعين كلامنا هذا عن االشاعر ومجموعته في سياق ما يرتئيه هذا النوع من الباحثين الذين يرون – ونوافقهم نحن الرأي في هذا السياق – أن ما من فصل بين ما يعيشه المبدع وما يبدعه. والشاعر لا شك يوافقنا على هذا منذ مفتتح قصيدته حين يقول انه إنما يريد هنا أن يجمع من «حول المنفى قصيدة تولد من لا شيء، وتصنع من لا شيء». ومن الواضح هنا أن هذا «اللاشيء» الذي تولد القصيدة منه وتُصنع إنما هو المنفى نفسه. وبهذا المدخل تحديداً يربط سان جون بيرس «منفا»ه هذا بالغريب الذي كانه الشاعر نفسه في «آناباز» كما في مجموعته البديعة الأخرى «رياح». والشاعر لا يضيع طريقه ولا مأساته كبشري هنا، إذ يخاطب مكلّمه بقوله: «إنني أعرفك يا أيها الوحش! ها نحنذا من جديد وجهاً لوجه!». ولكن فيما الشاعر يعلن استعداده للمجابهة. ها هو المنفى نفسه يحيله الى فكرة كانت أساسية لديه منذ أشعاره الأولى: فكرة خواء هذا العالم في تساؤل عما إذا كان يستحق النضال من أجله. ومن أجله مجابهة الوحش؟ يبدو أن الجواب يأتي من مكان آخر حيث يفاجئنا الشاعر قائلاً أن اللغة وحدها جديرة بالمساعي التي يمكن الإنسان أن يبذلها. أي بفعل المقاومة الموعود. وبما أن «ما من تاريخ سوى الروح. ما من دعة سوى تلك التي تأتي من الروح» ليس «لي إلا أن أسكن اسمي» – ترى، ألا يذكرنا هذا التأكيد بعنوان واحدة من أشهر قصائد أدونيس «هذا هو اسمي» الذي لا ينبغي أن ننسى هنا أنه كان واحداً من مترجمي سان جون بيرس الى العربية، وربما، إن لم تخنّا الذاكرة، واحداً من الذين تغاضوا عن معركة الشاعر مع هتلر(!)، هو الذي نذكّر فقط على سبيل مداعبة شاعرنا العربيّ الكبير، بأنه لم يتغاض أبداً عن معركة الكاتب الروسي بوريس باسترناك مع ستالين، ليصرخ في النهاية في وجه الشاعر: «إنها أيها الشاعر الساعة التي تنكر فيهااسمك وولادتك وعرقك»، ما يجعل القصيدة كلها تبدو سجالاً كبيراً بين الشاعر ووحدته.
> يشكل المتن الأساسي الذي جعل الشاعر «منفى» عنوانه، مقدمة هذه المجموعة المتكاملة والتي تأتي أجزاء تالية لتستكملها: «أمطار»، «ثلوج» وأخيراً «الغريبة». ولئن كانت هذه الأجزاء المكملة قد نشرت متفرقة لاحقاً، فإن المجموعة كلها عادت وتوحدت في ذلك النص الواحد الذي استأنف به سان جون بيرس (1887 – 1975) حياته الشعرية التي أوصلت صوته الى العالم ومكنته في العام 1960 من نيل جائزة نوبل للآداب.
جريدة الحياة