شاهدتُ قبل أيام احتفالاً للشعر، أو احتفاءً به، في بغداد، وكان المشهد محزناً. القاعة صغيرة، والحضور قليل، ونصف المقاعد خالية، وغاب الرصافي والجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة ولميعة عباس، ووجهُ الراحل الطيب بلند الحيدري. ماذا حدث؟ هل غادر الشعراء من متردَّم؟ أليس، هذا العراق، رحم الشعر؟
ربما، فقط ربما، كان شيء من الجواب عند الدكتور علي الوردي. لم يقل الوردي مرة أنه مع الشعر الحديث، لكنه كان يشكو دائماً مما سمّاه «أعباء الشعر العربي»: الوزن والقافية والإعراب. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، واعتبر أن «الإعراب في القافية داء عضال يعرفه الذين مارسوا نَظْم الشعر»: «إن الشاعر العربي مضطر أن يركز اهتمامه في القافية وإعرابها قبل أن يبدأ بنظم البيت. ولست أقول هذا جزافاً. فلقد كنت في بدء شبابي شاعراً، أو شويّعراً، وعانيت من نظم الشعر بلاء لا يستهان به. ولا أزال أذكر كيف كنت أجمع القوافي من القواميس فأضعها في قائمة، ثم أبدأ بنظم القصيدة على أساسها».
بلاء. معضلة. داء. تلك هي حدة الوردي، وهذا أسلوبه في معالجة معظم الأحوال. فلا مهادنة مع خصم. وكل ما لم يكن خاضعاً لقانون الفكر والتعمق كان خصماً له. ولذلك، رأى أن شعراء اللغات الأخرى تجنبوا القافية، أو الوزن، من أجل فكرة أو مخيّلة، أما إذا فعل العربي ذلك، فقد خرج من الشعر والشعراء.
ويعزو غياب الملحمة الشعرية عند العرب إلى هذا العائق، أو الحاجز الأساسي. وفي اعتقادي أن القافية ليست شرطاً لوضع ملحمة متعددة الفصول. وهي لم تغب غياباً كاملاً في أي حال. كما أن لغات كثيرة لم تعرف الملاحم بالمعنى الإغريقي، أو الهوميروسي، مع أنها لا تلزم ولا تلتزم، بالقافية أو الوزن، كما يقول هو في باب آخر.
يقول الوردي: «… والمعروف عن القواميس العربية القديمة أنها كانت ترتب الكلمات على أساس الحرف الأخير منها، لا الأول، كما تفعل القواميس الحديثة، والمظنون أنها فعلت ذلك لكي تساعد الشعراء على التقاط ما يرومون من القوافي».
أيضاً عن الوردي: «خلاصة ما أريد أن أقول هي أن الشعر العربي القديم جميل في موسيقاه اللفظية، ولكنه في معانيه ضحل نسبياً، ولو ترجمنا بعض تراثنا الشعري إلى لغة حديثة، لما حصلنا منه إلاَّ على سواد الوجه». وهل يشمل ذلك يا دكتور المتنبي والمعرّي وأحمد شوقي؟
إن حالة الشعر اليوم واحدة في هذا المزاج العالمي. فليس من أودن في بريطانيا، ولا بيتس في آيرلندا، ولا أراغون في فرنسا، ولا لوركا في إسبانيا، ولا إليوت في أميركا يُدعى إلى إلقاء شعره في تنصيب الشعراء. ولا غوته في ألمانيا. ليست مسألة لغة.
جريدة الشرق الاوسط