مع نهاية كلّ عام وبداية عام جديد تنتاب الكاتب أسئلة كثيرة عمّا أنجز من الوعود غير المعلنة التي كان قد قطعها على نفسه قبل عام، وما إن كان قد وفى بها أم أنه تغاضى عنها، وأبقاها طيّ الكتمان، وظلّت حبيسة طالما لم يكتب بها أو يعلن عنها للقرّاء أو لغيره من المحيطين به.
وحتّى لو كان قد أعلنها ولم يستطع الالتزام بها لسبب أو لآخر، فإنّه لن يعدم اختلاق الذرائع والتبريرات لنفسه، وأنّ الوقت داهمه، والزمن انسلّ من بين يديه، ولم يتمكّن من الإيفاء بما قطعه على نفسه من وعود بكمّية الإنجازات التي افترض تحقيقها وخطّط لإتمامها، أو تلك المخطّطات التي كان ينوي الشروع فيها.
ربّما أجمل ما في الكتابة الإبداعية أنّها تكون خارج الالتزامات، فهي ليست وظيفة على الكاتب تأديتها بشكل منظّم وفي ساعات محدّدة معلومة، بل تمنحه هامشاً للحرّيّة والتحرّك، وتبقيه منشغلاً بها على الدوام في قرارته، لا تنتهي علاقته بها مع إغلاق المكتب، أو إطفاء الكمبيوتر، أو وضع الأوراق التي يكتب عليها جانباً..
وبالرغم من أنّ هناك أدباء يلتزمون بساعات يومية محدّدة للعمل والكتابة، ويفرضون على أنفسهم الجلوس في تلك الأوقات واستحضار الأفكار والعمل عليها، وكأنّهم يستحضرون أرواح شخصيات متخيّلة لينسجوا لها ثياباً من الكلمات ويؤطّروها في صفحات مكتوبة، يمنحوها حياة خارج عالم الخيال ومن خلاله، إلّا أنّ كثيرين من المبدعين ينفرون من التقييد والإلزام، حتّى إن كان الإلزام من قبلهم أنفسهم.
وهناك كتّاب يعلنون أنّهم راضون عن إنجازاتهم حين يسترجعون حصادهم ونتاجهم السنوي، يكتبون سلسلة المنجزات، كأن يضعوا غلاف كتاب أو أغلفة كتب نشروها أمامهم، يسعدون بها وبـ”الكمال” الذي يسبغونه عليها، وهنا ربّما يكونون كمَن يقوم بجردة حساب، ويحسب أرباحه، فيسعد بها، وينتابه على إثرها شعور عميق بالرضى عن النفس والسعادة أنّه حقّق بعض أهدافه..
لا يخفى أن الشعور بالرضى عن المنجزات مهمّ للغاية، لكنّه قد يصبح عامياً لصاحبه، بحيث يستعذب السكنى في فراديس متوهّمة، وينتشي بلذائذ الثناء التي لا تخلو من جاذبية، ولكن لا يمكن إغفال ما تستدرج إليه من خديعة بأنّ المتوّج بتاج الرضى بلغ سدرة منتهاه الإبداعية، وأنّ أيّاً كان ما سيخطّه سيغطّي على الآخرين وإبداعاتهم.
لعلّ قدر الكاتب أن يحلم بتلك الأعمال التي لم ينجزها بعد، والتي يحلو له أن يصفها بأنّها ستكون أروع أعماله، ويكون في استعادته لمنجزاته السنوية، أو نتاجه في عام سابق، مقرّعاً بشكل مضمر لذاته، ومؤنّباً نفسه أنّه قصّر أو أهمل في التركيز على أعماله الإبداعية، وكانت هناك كثير من الأوقات التي لم يستغلّها أو أهدرها بطريقة ما.
الكتابة الإبداعية تنكتب في وجدان الكاتب ولاوعيه بطريقة ما، تصارع للتبلور والتجلي بصيغة مكتوبة، وتمرّ بأكثر من مرحلة لتصل إلى درجة يُطلع بها الكاتب الآخرين عليها.
ولعلّ جمالية الكتابة الإبداعية أنّها تكتمل بالنقصان الذي يشوبها، ولا يمكن الزعم بأيّ شكل من الأشكال من قبل أيّ كان، أنّ دائرة الإبداع قد اكتملت، وأنّ الإنجازات المتحقٌّقة بلغت مداها، والحصاد السنوي كان وفيراً لدرجة أنّه ألغى الرغبة، أو الطاقة المفترضة، بطريقة غير مباشرة، من أجل البحث عن سبل للتجريب والمحاولة والإبداع.. وهذا يكون إعلان نهاية وشيكاً من قبل الكاتب بأنّه استنزف ما لديه من طاقة وخيال ووصل إلى عتبة التقاعد.
نقلا عن صحيفة العرب