إنه اليوم الأخير من الشهر الأخير من العام الذي يلملم أوراقه مؤذناً بالرحيل. سوف يحاول البعض تجاهل هذا اليوم، ويقول: يوم عادي مثل كل أيام العام الأخرى. وسوف يقيم له البعض حفل وداع صاخباً يبدأ قبل أن ينتهي اليوم، وينتهي بعد أن يبدأ العام الجديد، فاصلاً ما انتهى عما بدأ، أو رابطاً النهاية بالبداية، فالأمران سيان بمقياس مرور الزمن، لكنهما بمقياس نظرة الناس لهما مختلفان.
هذا الاختلاف هو ما يمنح اليوم خصوصية لدى البعض، ويمنح الليلة التي نحن على مسافة ساعات منها طابعاً احتفالياً لا تحظى به بقية ليالي العام لدى بعض البشر.
سوف يقتضي الأمر مروراً أمام المرآة لمعرفة أي نوع من الاحتفال يجب أن يتم الاستعداد له هذه الليلة. ليس المقصود بها تلك المرآة التي تكشف ملامح وجوهنا، وتظهر التغيرات التي حدثت لها على مدى الأعوام التي انقضت من أعمارنا، أو حجم التجاعيد التي تسللت إليها.
وإنما تلك التي تكشف التغيرات التي حدثت خلف هذه الوجوه، حيث نطوي عليها كي لا تنكشف للغير، ونحاول أن نقلل من حجم التجاعيد التي لا يمكن أن تعمل فيها مساحيق التجميل، ولا مباضع الجراحين، ولا تلك الحقن التي يحاول الأطباء أن يصلحوا بها ما أفسد الدهر عبر هذه الأعوام، كي يعيدوا وجوهنا إلى ما كانت عليه، كي نستقبل العام الجديد ونحن أكثر قدرة على مواصلة الرحلة.
هل أتاكم حديث ذلك الرجل الصالح من بني إسرائيل، الذي مر على القرية التي خربها الملك الكلداني «بختنصر» وقتل أهلها، وهي خاوية على عروشها، فوقف متفكراً فيما آل إليه أمرها بعد أن كانت عامرة بأهلها، وقال (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) لِما رأى من شدة خرابها، وبُعدِها عن العودة إلى ما كانت عليه، فأماته الله مئة عام ثم بعثه، وقد عمرت البلدة وتكامل ساكنوها، ورجعت بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته، كان أول شيء أحياه فيه عينيه، لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويا قال الله له (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؟ ألم تتمنوا لو أنكم مثل نبي الله عزير، الذي لم يتغير شكله بعد مئة عام؟
هل أتاكم حديث الفتية الذين آمنوا بربهم، فزادهم ربهم هدى، وفروا بإيمانهم من وجه ملكهم الطاغية، عندما رأوا أنهم غير قادرين على إظهار إيمانهم، وسألوا الله أن يسهل أمرهم، فأووا إلى غار يسره الله لهم، وناموا في كهفهم ثلاثمئةٍ سنين وازدادوا تسعا، ثم أيقظهم الله ليتساءلوا بينهم كم لبثوا، وقالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، مثلما قال عزير، عليه السلام؟ ألم تتمنوا لو أنكم مثل أولئك الفتية الذين لم تتغير أشكالهم، بعد ثلاثمئةٍ وتسعة أعوام؟
إنه اليوم الأخير من الشهر الأخير من العام الذي يلملم أوراقه ليرحل عنا، فأي أفكار تراودنا ونحن نطوي عاماً من أعمارنا، سيحمل معه كل أحداثه، بخيرها وشرها، بحلوها ومرها، ويحولها إلى نقطة صغيرة في الذاكرة، ستبتعد عاماً بعد عام، وتتضاءل حتى تغدو مثل كوكب صغير بعيد، لا يكاد يُرى، في مجرة هائلة، أو ذرة من غبار كوني في هذه المجرة، في الكون الذي يحتوي على قرابة 170 مليار مجرة مثلها.
هكذا نحن، نحسب أننا أجرام صغيرة وفينا انطوى العالم الأكبر. ولكن أي جريمة نرتكب بحق أنفسنا عندما نحصر تفكيرنا في شكلنا الخارجي فقط، وننسى أن ثمة أشكالاً داخلية هي أكثر أهمية وروعة من الشكل الخارجي، وأن مرور الأيام والأعوام يُحدِث في دواخلنا العميقة شروخاً وندوباً يصعب إصلاحها، أكثر مما يترك على قشرتنا الخارجية من آثار ربما يكون إصلاحها سهلاً في ظل التطور الهائل الذي حدث في عالم التجميل وأدواته وعملياته.
«لا شيء كالروائح جدير بأن يجعلنا نتذكر الماضي». هذا ما يقوله الروائي الياباني المعروف «ياسوناري كاواباتا» على لسان «إيغوشي» في روايته الشهيرة «الجميلات النائمات». هذه الرواية التي يقول عنها الروائي الكولومبي الأكثر شهرة «غابرييل غارسيا ماركيز» إنها الكتاب الوحيد الذي تمنى لو كان كاتبه.
في هذه الرواية يأخذنا «كواباتا» إلى عالم «إيغوشي» الذي يدخل إلي منزل الجميلات النائمات للمرة الأولى بدافع الفضول، فتدفعه التجربة لتكرارها. خمس ليال يقضيها «إيغوشي» في منزل الجميلات النائمات يستعيد فيها ذكرياته، ينتقل عبر رائحة أو لون إلي ذكريات قديمة عن أمه.. عن ابنته.. وعن نساء مررن في حياته.
لقطات قصيرة سريعة كأنفاس الجميلات النائمات إلى جواره. يغوص «كاواباتا» من خلالها إلى أعمق مناطق النفس البشرية وواحدة من أكثرها تعقيداً، يأخذنا إلى تلك المنطقة الغائمة دون كثير من التفاصيل أو الأحداث. انتقال سلس بين مشاهد الذاكرة والمشاعر الدقيقة التي تثيرها في النفس. يواجهنا بتلك المخاوف الخفية؛ الخوف من العجز.. من الفقد.. ومن النهايات غير المتوقعة أبداً.
في اليوم الأخير من الشهر الأخير من العام الذي يلملم أوراقه مؤذناً بالرحيل نتوحد مع «إيغوشي».. نبحث عن روائح تعيش سنواتٍ أطولَ من حيواتنا.
جريدة الاتحاد