الحاجة ماسة إلى طه حسين. يتذكره المصريون اليوم بكثير من الحنين، ينشرون صورة لتمثال له يتمنون لو يوضع في أكثر الأماكن بروزاً ليراه العدد الأكبر من المارة.
45 سنة على رحيل «عميد الأدب العربي» الذي لم ينازعه على لقبه وموسوعيته أحد، كانت عامرة بالنكسات الجسام. يبدو وكأنما كل ما جاهد من أجله جيل النهضة الأدبية من عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، وتلك القافلة من المتنورين الكبار، كل ما سطروه في محاربة الخرافة والتقاليد البالية، يطوى سريعاً لتحل مكانه فوضى لا اسم لها ولا ملامح.
الحنين إلى هؤلاء ليس وقوفاً على الأطلال، بل عودة لقيمة العقل في زمن تجتاحه عواطف بلا بوصلة ومشاعر هيّاجة لا تحتكم إلى منطق ولا تستند إلى حكمة.
بمقدورك أن تختلف مع نظريات طه حسين فيما إذا كان الشعر الجاهلي منحولاً، موضوعاً، أم أصيلاً، صحيحاً، أن تناقش منهجه الديكارتي، ألا تعجبك أفكاره وجنوحه إلى هوية متوسطية في «مستقبل الثقافة في مصر» أو هجومه على رجال الأزهر في رائعته الخالدة «الأيام»، لكنها الكتب التي لا تزال تعتبر مداميك في المكتبة العربية، رغم مرور عقود طويلة على كتابتها. مراجع لن يتمكن من أن يسقطها باحث من حسابه.
ننسى أن كتاب «في الشعر الجاهلي» كان أكاديمياً، من ذاك الصنف الذي عادة ما يأكله الغبار على رفوف المكتبات ولا يلتفت إليه سوى أهل الاختصاص. نجح الرجل في أن يجعل منه محوراً طوال ما يقارب قرناً، مدحاً أو هجاءً، هذا ليس بقليل. دفع ثمناً غالياً وهو يتصدى لمناوئه، خسر عملاً ومالاً وسمعة. ليس لطيفاً في بلادنا أن يتهم الإنسان بالتخريب والإساءة للوطن أو الدين. لكنه صمد دفاعاً عن رأيه، لأنه لجأ إلى العقل منهجاً، وجاء الرد عليه سياسياً ثأرياً تارة وعاطفياً تارة أخرى.
الرد على طه حسين الذي جمع بين معرفة هائلة بالتراث وتعمق مثير بالفرنسية واللاتينية وعشق لليونانية، وأسلوب قوي في اللغة، وهو المستند إلى معرفة قرآنية بدأت من الكتّاب، مروراً بالأزهر، وصولاً إلى سماع يومي يشبه الإدمان أحياناً، يحتاج قامات معرفية.
حين قابلت صدفة حفيدة طه حسين أمينة التي صارت اليوم «حافظة للمتحف الوطني للفن الآسيوي» في باريس، وعرفت أنها تتحدث اليابانية وباحثة في الفن الصيني والهندي وعاشقة متيمة للشرق الأقصى، أدركت أن جزءاً إضافياً من أحلام عميدنا يتحقق. فهو الذي كان يرى أنه «يؤخذ على الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم ولم يوفقوا إلى الحق فيه، أنهم لم يلموا إلماماً كافياً بتاريخ الأمم القديمة». كان يتساءل مستغرباً: «أولم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها». يأخذ عليهم أنهم نظروا إلى أمتهم على أنها فذة، لم تشبه أحداً ولم يؤثر فيها أحد قبل أن تبسط سلطانها القديم.
أراد لنظرته هو الضرير أن تكون بانورامية ورؤيوية، وكان له ما أراد. لم يوفر تاريخاً ولا أدباً ولا فلسفة، ولا موسيقى غربية أو شرقية. تحدى العمى وراح يحاول اكتشاف الأعمال التشكيلية ويتابع أفلام السينما. هذا عالم استثنائي لا يتوقف المرء معه على خلاف حول بعض الأفكار بل يراه عالماً متكاملاً، وهو الوطني المخلص. حين ضاق به الحال في مصر والاتهامات تطارده والمحاكم تستدعيه، رفض الذهاب للعمل في أميركا كما عرض عليه المستشرق ماسينيون. كان يعرف أن له دوراً في بلده عليه أن يؤديه، وأنه لم يأت إلى هذه الفانية جزافاً.
جريدة الشرق الاوسط