قبل سنوات، رحل نبيه الصعيدي، في ظرف قاس، من الوحدة المطبقة، ولما يتعرّف إلى حجم موهبته الكبيرة كسارد، سوى قلّة من المهتمين، حيث ظلّ السواد الأعظم من نتاجه الروائي والقصصي حتى النهاية في شكل مسودات ظلّت عسيرة على نشر بدا في مصر؛ خلال عقد التسعينات إجمالاً أشبه بمحاولة العثور على لبن الطير، الأرجح لجملة العلاقات الحاكمة وقتذاك على مستوى الوسط الثقافي، مضافاً إلى هذا لا طبيعة الصعيدي الحادة المزاج فحسب، بل كذلك غلبة الغرائبي الغارق في سوداويته، غير المروّض تقريباً بحسّ فكاهي، أو حتى معنى ما قد يبرر وجود الحياة نفسها ناهيك بعيشها، على منجزه الإبداعي ككل.
الأكثر مدعاة للأسى والتعاطف هنا، هو ذلك التطابق التام تقريباً، على مستوى «رؤية العالم»، ما بين شخصية نبيه نفسه المدجّجة بصدق أخلاقي أقرب إلى المثال وشخصيات سرده المتخيل!
كنت أسير رفقته، كصحبة نادرة خارج أسوار الجامعة، وكان ذلك نهاراً آخر من نهارات مدينة الزقازيق (شرق القاهرة)، حيث خانعٌ هو ورتيبٌ كل شيء محيط، فإذا حسّه العبثي الطافح بالسخط يطفو بغتة عبر قارب المرارة الذي لا يحتمل. سألني حينذاك، وهو يعلم سلفاً أنني لم أنفصل بعد بأي درجة تذكر عن مسارات «الوعي الكائن»، عن مبرر وجود طفل في قريتهم (القنايات) غير بعيد مِن الزقازيق، لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، حرفياً. كنّا وقتذاك، نسير باتجاه مكان عمله في شركة التأمين، حيث يجلس هناك نبيه الصعيدي خلف مكتب من الحديد، بمشاركة مكاتب من الطراز ذاته، لموظفين أكثر ما يميزهم الطيبة والبساطة الريفيتان. لقد كانوا الموظفين أنفسهم الذين درجوا على مطالعتي كطالب جامعي أسمر نحيل، «من السودان الشقيق»، لا ينفك يزور زميلهم الغريب الأطوار من حين إلى آخر. فنبيه كان ضخم الجثة، شرهاً في التدخين، صوته جهوري؛ يتحدث إليك وأنت إلى جانبه، فتحسّ أحياناً كما لو أنّه يخاطب إنساناً يقف على الضفة الأخرى من الشارع، وإذا هو مع وعيه الطليعي الحاد ككاتب، ينفجر إذا أمِن إليك بالضحك فجأة، أي مثل أي متوحش آخر عرفه العالم في ذلك الوقت، وكان يغضب بالمقدار نفسه لاشتعال ذلك الفرح، وذلك ما ضيّق دائرة أصدقائه، في زمن يعلي النّاس فيه قدر الزيف، من خلال ما يدعى «الذكاء الاجتماعي».
قدتُ دراجتي القديمة المستعارة من طالب فقير آخر، وكانت من دون أنوار ومستلزمات سلامة أخرى كالفرامل، واتجهت عصر ذلك اليوم إلى قرية القنايات لمفاجأة نبيه بالزيارة، وكان أن قادني إليه رأساً عبر أزقة كثيرة بدت كالمتاهة، فلاحٌ بجلباب أزرق، وكانت فرحة نبيه الطفولية الكبرى، وهو يراني أمامه على حين غرة، في تلك الأنحاء. وكما جرت العادة عند زيارات المكتب، أغرقني نبيه بالسجائر، كما لو أنّها أعلى أشكال الضيافة المعتمدة لديه، وهو يؤكد أننا سنزيّن احتفالاتنا الصغيرة بالفول والطعمية، في حال تخرجي قريباً في الجامعة، وهو ما لم يحدث لأن نبيه اختنق قبلها على الأرجح بدخان سجائره القوية تلك، وهو يغالب ثقل معنى العالم وخفته صعوداً وهبوطاً في آن، ثم سألني فجأة ما إذا كنت أعرف فلاناً، وكان أحد أساتذتي في كلية الآداب، فقال أنه منهم «من القنايات هنا»، وما إن علم أنني رسبت في مادة ذلك الأستاذ، حتى قادني إليه رأساً، ومن خلال أسلوب نبيه المباشر تمت تسوية المسألة تالياً، من دون أن يشهد نبيه نهاية ما بدأ هو من «خير!»، لأنّه صار عندذاك، أو كما سبقت الإشارة، في عالم الموتى.
كانت زيارة نبيه مؤسسات النشر الحكومية في القاهرة تتكرر عبر السنوات، ويحدث فيها الأمر ذاته، ثم ذلك المدعو «اليأس»، والفارق الوحيد، الذي ظلّ يحدث في أثناء تلك الزيارات كان يتمثل ليس في النشر، بل في زيادة عدد المسودات التي أنجزها، ويبدو لي الآن أن من العسير جداً على أي بيروقراطي التعاطف مثلاً، مع عمل إبداعي تبدو رحلات أبطاله نحو أراضين كثيرة تقع في العمق من أرضنا هذه. في ذلك اليوم، وهذا ما تناهى إليَّ سماعاً بعد رحيله، خرج نبيه الصعيدي من مباني الهيئة العامة للكتاب، أو هيئة قصور الثقافة، كعهده دوماً بخفي حنين، وقد انتزع هذه المرة مسودات أعماله المودعة هناك في انتظار النشر ورمى بها إلى النيل. هو فعل ذلك مثلما قد يفعل في الموقف ذاته أي بطل ملحمي آخر يظهر فجأة في غير زمانه. أجل، مات نبيه تالياً؛ بعد مرور فترة قصيرة. إلا أنه كان يبالغ في الاهتمام بمسوداته، ويقوم بطباعة أكثر من نسخة من كل مسودة، بتكاليف باهظة، بحسابات دخله المحدود، ولا ينسى في الأثناء أن يعمل على تغليفها أو تجليدها بالحنان الأبوي الذي يليق بطفل وحيد.
مرت الأيام، وتباعدت بي السبل والطرق والسنوات، ثم اتصلت أخيراً، مِن أستراليا حيث أعمل وأقيم؛ بصديق مشترك، هو الكاتب العربي عبدالوهاب. في أثناء استعادة تلك الذكريات، خطر لي فجأة أن أسأله عن ميراث نبيه الصعيدي الثمين الذي لم ينشر، واعتذرت على تقصيري، وأنا أسأله البحث عن طريقة ما يمكننا أن نساهم بها في نشرها. مرة، في أواخر الألفية الماضية، طرَق صديق أخرق باب شقتي المؤجرة في القاهرة، وأخبرني من دون مقدمات بأن صديقي الكاتب مجدي حسنين؛ المحرر في صحيفة «الأهالي» وقتذاك مات بالسكتة القلبية. ما أحمده أن العربي عبدالوهاب في أثناء تلك المكالمة قام بتهيئتي جيداً، لتقبل أمر يبدو لي أكثر قسوة من موت الفجاءة، وهو يخبرني أنّه قام بلقاء أحد ورثة نبيه، على خلفية احتفالية عامة في قصر الثقافة بالزقازيق، وأخبره ذلك الوريث بما يشبه الفرح تأكيداً أنّه قام بحرق كل كتب وأوراق قريبه التي خلّفها بعد موته؛ لأنّها كما يزعم «ليست ذات فائدة».
جريدة الاتحاد