د/عبد الجليل عمر موزهيكل
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية فاروق التابعة لجامعة كاليكوت – الهند
الملخّص
تقصد هذه الدراسة لاكتشاف استراتيجيّات بناء العمل الروائي أو سرد أدب الرحلات الإبداعي في كتاب ‘الاتجاه شرقا’ لـ عبد الله ناصر سلطان العامري، بالإضافة الى ذلك تتضمن الدراسة جماليات السّرد للكتاب المذكور ومدى تأثر هذا النص الابداعي في الثقافة والأسطورة والمكان.
أدب الرحلة غني في ساحة الأدب العالمي، وللعرب دور ريادي في نشر هذا الفن، ولا يزال هذا الفن يحظى بإقبال كبير، ويتمتع بمقروءية واسعة، وقد صدر حديثا كتاب “الاتجاه شرقا” للكاتب عبد الله ناصر سلطان العامري، والذي قدم سابقا كتاب “على ضفاف نهر الغانج”، يأتي كتاب الاتجاه شرقا بــ 46 عنوانا أو لوحة فنّية سجله من خلال رحلاته في صورة رواية تتناسب شروطها وعناصرها النصوص الإبداعيية لأدب الرحلة .
قبل الشروع في تحليل الرواية أودّ أن أفيدكم بكل تأكيد أن هذا النصّ يندرج تحت مسمّى النص المفتوح(Open Text) والنص الدينامي ، ويصبح النصّ الابداعي منفصلا عن المؤلف بمجرد وضع المؤلف نقطة النهاية، ويستحق للناقد أن يتعامل معه بغض النظر عن كاتبه ما دام الرحال قد صاغ ما شاهده بصيغة أدبية.
ولا تزال نصوص الابداعات الرحلية تصدر في ساحة الأدب، وقد قرأت مؤخرا بصفتي ناقدا للنص الأدبي كتابين لنوال السعداوي وأنيس منصور، والذان يتناولان تجربة الرحلة الهندية، ولكن كتاب ‘الاتجاه شرقا’ جهد عظيم لشكل جديد في الرواية وأدب الرحلة، وليس بكتاب وصف العادات ووصف الأماكن وذكر الأهمية التاريخية كما تعوّدنا، بل هي تجلّيات مغامر فيلسوف، وبهذا الكتاب يأتي المؤلف بجنس أدبي جديد يجدر بأن يسمّى ‘رواية رحلية’ ضمن الأجناس الأدبية الأخرى.
ومؤلّف هذا الكتاب من الإماراتيين المعروفين البارزين ديبلوماسياً، وهو الحائز على جائزة الشخصية الاتحادية لعام 2014م، وهذا الإماراتي مغرم بالهند، بالإضافة الى ذلك، فهو شخص ذكي وحاذق وقد تجلى ذلك من خلال مجموعة القصص في الكتاب، ويعتبر هذا الكتاب أول تحفة إماراتية للهند بهذا العمق الفلسفي والأسطوري.
هذا النص الإبداعي أو الرواية عبارة عن رحلة في بقعة المدّ الجبلي (Mountain Terrain) وصفوق الهضاب بدء من جبال هيمالايا (Himalaya)من ولاية هيماتشال براديش من الهند مرورا بتبت(Tibet) إلى قرغيستان في بلدان آسيا الوسطى، بحيث تتضمّن بلاد لاداخ(Ladakh) وليه(Leh) وبانجونج(Pangong) ومرتفات التبت مثل لاهسا (Lahsa) وناموستو(Namustu) وتانغالانغ (Tanglang) وجبل سليمان في مدينة (أوش) التاريخية القرغيستانية.
ويستمد الكاتب خواطره من هذا المدّ الجبلي الطويل وصفوف الهضاب المتتالية ويقوم السارد هنا كما وقف العلامة محمد إقبال شاعر المشرق أمام جبل فاران بفلسفته، أو كما وقف مع عمر أبو ريشة أمام معبد كجراو، حيث قال :
من منكما وهب الأمان ..
لأخيه، أنت أم الزمان
شـقيتْ على أعتابـك .
الغارات وانتحرت هوان
وتـمـزقـت أمـلاكهـا …
تـاجـاً وفُضـت صـولجـان
وبقيت وحدك فوق هذا ..
الصخر وقفة عنفوان
يــاهـيـكـلاً نثـر الفتـون ..
ورنـح الـدنيــا افتتـان
وهذا الكتاب يندرج تحت أصناف الكتب التي يتميز بميزتها الفائقة في المشهد الثقافي والأدبي، وفيه السرد الأدبي الممتع وقدرة الاستطلاع والاكتشاف والبحث عن الحقل الأسطوري لتلك البقعة، وهي جولة ساحرة في الاسطورة والمكان، وينظر السارد إلى تراث هذه البقعة وغموضها وأسطورتها وفلسفتها، وهي بالطبع ليست برحلات عادية للسياحة والمغامرة , بل لها بكل تأكيد أبعاد أدبية وفلسفية على القارئ تبينه .
ويترك النصّ آفاقا جديدة للقارئ الحصيف، وهو نص لا نظير له في السرد للرحلة أيضا، وسيعد هذا الكتاب حتما كما اراه , غرة أدب الرحلات لأشكاله الجديدة، وبهذا السارد يؤطّر لنوع جديد بما يسمّى (رواية) في ادب الرحلات ضمن الأجناس الأدبية، وأعود إلى الموضوع الذي نحن بصدده، وهي قراءة في كتاب ‘الاتجاه شرقا’.
وتبدأ الرواية بعبارة عن الشخصية المركزية، هو حكيم زمانه، طويل القامة، له عينان زرقاوان، هو رجل غامض، هو بابا فيرما(Papa Virma) صاحب المقام الأول في النص السّردي، وهو رفيق الكاتب الرّوحاني في بقعة بعيدة , حيث يبحث جميع النساك الهنود عن السرّ الأزلي، ويتفكر كلّ من وطئ هذه البقعة في الحقيقة المطلقة، وبكل شيء فلسفي يدعو للتفكر، حيث يقول الكاتب : ( هنا في هذا المكان لا أهمية للوقت والزمن، من قال إن الوقت يمضي بسرعة، فليأت ويجلس مع هذا الرجل المتأمل، ليستنتج أن الوقت هنا وتحت هذه الجبال، لا قيمة له، فإن كنا نؤمن بأن الزمن لا يعود للوراء، فالوقت هنا لا يتحرك للأمام[1]) وهذا نص أدبي ممتع حول بقعة المكان يصعب وصفها , وأسطورة فلسفتها عريقة.
ويلاحظ عند قراءة النص أن للسارد ألمعية الملاحظة ورهافة الفطنة وسرعة الالتقاط والقدرة على استبانة الملامح والمعالم، وفيه عذوبة السرد، وقد أبدى الكاتب براعته في قراءة الهنود في هنديّته، ولكل كاتب سردي أسلوبه المتميز، ولكل رواية عناصرها المشوقة بأحداثها الواقعية أو الخيالية في بقعة زمانية ومكانية، هذا ويشير إالقاص عبد الحميد أحمد في مقدمة الكتاب مايلي : (يسير كاتبنا واثقا في تجربته في ظلال الهيملايا كحال الكثيرين، الذين يبحثون في تلك الأماكن عن خلاص روحي، أو عن ملاذ آمن لأفئدتهم المكسورة، يبحث الصديق عبد الله عن علاقة الأرض بالإنسان، متقفيا آثار المجهول في الكهوف والمغارات والأديرة[2]).
ويلاحظ القاص عبد الحميد أحمد أيضا : ( يميل “الاتجاه شرقا” نحو كتابة وصفية تقترب من عالم السرد الروائي، لكنه لا يتخذ حبكة تصاعدية شأن الروايات، بل يأخذ منحى أدب الرحلات، الذي يزخر بالتجارب الذاتية والوصف التسجيلي، فلطالما أحب القراء هذا النوع من الأدب، ليصحبهم في رحلة تخيلية إلى الأماكن التي زارها الكاتب، فيشاركونه المتعة والحلم، ويقاسمونه التفكير الجاد، والبحث معه عن المجهول الغائب[3] ) ، ويضيف أيضا إلى أنّ صفحات الكتاب تحتوي على أسماء لأشخاص الذين جاؤوا من عالم الأساطير، وبحكايات شعبية مفعمة بالسحر.
وتنحو الرواية منحى الفلسفة (الميتقافيزيقية) ذات أصالة في التراث والأسطورة، ويخوض الكاتب أحيانا في المعقول، وأحيانا في اللامعقول، و(بابا فيرما ورجل الغار المبجل وسماندر ورجل الجنوب ) عبارة عن أشخاص إستثنائييون في المكان والزمان، أن للبناء (المورفولوجي) للشّخصية المركزية (بابا فيرما) أهمية بالغة، رسم الكاتب ملامحه الشّخصية رسما دقيقا، بالإضافة إلى البناء الداخلي حيث وظّف طابعه وأخلاقه بالبساطة والغموض.
العقدة في الكتاب هي عنصر التشويق والإثارة، وهذا يدفع القارئين نحو الحلّ ، والحبكة في الرّواية سير أحداث القصة باتجاه الحلّ، ويلاحظ أن الكاتب يتبنى استراتيجية محكمة لاسقاط المتلقي في شرك بمهارة سرده الأخّاذ، والعقدة والحبكة التصاعدية لا توجدان في هذا النص الروائي كما تعوّدنا، ولكنهما موجدوتان في غموض بعض الشخصيات والفضاءات، ولكل الشخصيات في هذه الرواية وظائف بنائية ودلالية، وما كان اختيار الكاتب اختيارا جزافـيا أو عشـــــوائيا، ويوغيش باندي(Yogesh Pandi) وأنيل دهان(Anil Dhawan) وعلي النعيمي Ali alnuami)) وراج(Raj) وغيرهم شخصيات عادية وفي نفس الوقت يعتبر (بابا فيرما وسماندر(Samandar) ورجل الجنوب ورجل الغار المبجل ) شخصيّات خارقة للعادات التي تجعل هذا النصّ الابداعي تجربة روائية، وكذلك أسطورة بعض الفضاءات مثل قوم يعيشون تحت الأرض منذ قرون ومكان (ذي القرنين )وموقع (الردم) و(العين الحمئة )أو (بحيرة إيسك كول(Issyk Kol)( وغيرها تجعل هذا النصّ الإبداعي تجربة روائية ادبية رائعة وغير مسبوقة، فغموض هذه الفضاءات يعتبر عملا روائيا ناجحا ومن غموض الشخصية المركزية والصدفة وتعاقب الأحداث أيضا، وهذا الكتاب واقع أيضا ضمن الدراسات الاثنوغرافية(Ethnographic) والأنثروبولجية(Anthropological) وذلك من خلال محاولته للتعرف على شعوبها وعاداتها، وبهذا النصّ يؤطّر الكاتب لنوع جديد بما يسمّى رواية لادب الرحلات ضمن الأجناس الأدبية.
الخاتمة
ويستنتج ممّا سبق، كتاب ‘الاتجاه شرقا’ جهد عظيم لشكل جديد في الرواية وأدب الرحلة، وبهذا الكتاب يأتي المؤلف بجنس أدبي جديد يجدر بأن يسمّى ‘رواية الرحلات’ ضمن الأجناس الأدبية الأخرى، وهذه الرواية متأصلة في الأسطورة والمكان، واستيراتيجة السرد التي تتناسب تماما مع الفضاءات أو البقعة التي اختارها الكاتب عبدالله ناصر سلطان العامري لهذا الابداع في عمق ثقافتها وفلسفتها, ولي عودة في دراسة أعمق .
المصادر والمراجع
- عبد الله ناصر سلطان العامري، الاتجاه شرقا، أوستن ماكولي للنشر م.م.ح، الشارقة، الإمارات،2019.
- ديوان عمر ابو ريشة، عمر أبو ريشة، دار العودة، بيروت، 1998
- أنيس منصور، حول العالم في 200 يوم، دار الشروق، مصر 1990.
- نوال السعداوي، رحلاتي في العالم، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017
[1] . عبد الله ناصر سلطان العامري، الاتجاه شرقا، أوستن ماكولي للنشر م.م.ح، الشارقة، الإمارات، ط1، (2019)، ص:36
[2] . المصدر السابق، ص:11
[3] . المصدر السابق، ص:11