هل كان المعرّي ينظر إلى العربية نظرة حاسوبيّة بالخوارزميّات؟ كان لديه تصوّر متطوّر وعلميّ للغة. البيانات المخزّنة والمبرمجة في دماغه، هي ذات سعة نجوميّة، أنتجت رؤية خاصة بفضل علم موسوعيّ بقواعد اللغة وأسرارها، عقل ناقد، قدرات إبداعية متنوّعة، تأملات فلسفية، حسّ مرهف وحرية فكر وتعبير في أيّ مجال.
المناهج العربية ترينا من خلال حشود المتخرجين، أنها لم تضع قط نموذجاً للطالب في نهاية الدراسة منذ الابتدائية. لا شك في أن النموذج أو المثال المتصوّر سيكون مثاليّاً، ولكنه سيكون قمّة تسعى المناهج إلى بلوغها. معنى ذلك للأسف، أن ليس للتربية والتعليم في العالم العربي فلسفة تربوية وتعليمية. بعبارة أوضح: واضعو المقرّر الدراسيّ يراكمون المعلومات ودع ما سيكون أن يكون. منهج «يا تصيب يا تخيب»، لا يساوي شعيرة. ليس مبدأ تربوياً ولا تعليمياً، ذلك الذي يُلقي بغير الناجحين في سلة مهملات التهميش والبطالة والضياع الاجتماعي. فشل الطالب هو فشل التعليم.
في شأن مقرّر العربية من الابتدائية إلى نهاية الجامعة، على المناهج أن تنحت النموذج الذي يُقاس عليه، ولن تجد شخصية مثالية كالمعرّي. لا عاقل يقول إن المخطط سيؤدي إلى تخريج عشرات الألوف سنوياً من أبي العلاء، ولكننا سنحظى بأجيال لديها العلم والمعرفة والكفاءة العالية أو سحر الفرادة في الإبداع. حينئذ يصبح التعليم مشروعاً حضارياً.
المعرّي يرفع اللعب اللغوي إلى القمة. في بداية «رسالة الغفران»، يأخذ بيتين ساذجين للنمر بن تولب: «ألمّ بصحبتي وهمُ هجوعٌ.. خيال طارقٌ من أمّ حصنِ..لها ما تشتهي عسلا مصفّى.. إذا شاءت وحوّارى بسمنِ» (الحوّارى، الخبز)، ويسأل: ماذا لو كانت القافية «أمّ فحص»، كيف تكون قافية البيت الثاني؟ ثم يطبّق ذلك على كل حروف الأبجدية. هذا هو التفكير اللغوي بمعادلات الرياضيّات. أمّا لزوميات المعرّي فهي إدخال العمل المعجمي ورياضيات الإحصاء إلى الشعر الفلسفي.
لزوم ما يلزم: النتيجة القطعية: إعطاء الأولوية للإحساس بجمال اللغة هو الذي يجعل استيعاب القواعد يسيراً. عشق اللغة أوّلاً.
جريدة الخليج