أعرف ممثلاً مسرحياً عربياً من الجيل الثاني بعد الرواد، تلقى نبأ وفاة أبيه قبل ساعة واحدة من بدء العرض المسرحي، فطلب منه زملاؤه أن يتوقف عن التمثيل ذلك المساء، والاعتذار للجمهور عن إغلاق المسرح في تلك الليلة على الأقل، لكنه رفض بقوة وذهب إلى غرفة وراء الكواليس وبكى حتى استراح قليلاً، وقرر أن يؤجل ما تبقى بعد العرض. ولم يعلم أحد من الحضور أن الرجل المتماسك الذي احتفظ بتوازنه فقد قبل ساعات قليلة والده، وحين وقف المخرج على خشبة المسرح وقال للجمهور: إن هذا الرجل الذي جئتم لمشاهدته كما يجيء غيركم كل مساء كان يواصل المشهد وكان في منزله مشهد درامي حي وليس مسرحية. فالأم تبكي والأخوات يصرخن والأب مسجى بينهم.
وقد يتصور البعض أن مثل هذه الحكايات بها إفراط من الخيال أو أنها تستهدف التمسك الأخلاقي والمهني، والحقيقة ليست كذلك. فهناك أطباء ماتوا وهم مسرعون في سياراتهم لإنقاذ مريض، وهناك طبيب روى حكايته بواقعية هو الكاتب الروسي تشيكوف وهو طبيب أيضاً، فقد هذا الطبيب حياته بسبب عدوى مباشرة من أحد مرضاه. وليوسف إدريس وهو كاتب وطبيب أيضاً قصة شهيرة عن حالة مماثلة، لأن هؤلاء أبروا بقسم أبوقراط ولم ينكثوه، حتى أبوقراط نفسه اضطر في لحظة فاصلة من تاريخ اليونان أن ينكث القسم، كان ذلك عندما طلب قائد الفرس الغازي أن يعالجه مقابل أي شيء يطلبه، لكنه اعتذر وقال له نسيت أن أضيف إلى قسمي عبارة تخص الشرف، هي ألا يعالج الطبيب من اجتاح بلاده وجاءه غازياً لأن في اللحظة التي يعالجه فيها يكون هناك المئات وربما الآلاف من أهل البلاد يقتلون وينزفون في ساحة المعركة.
إن خيانة المهنة سواء كانت لطبيب يخذل مريضه أو لمهندس يتسبب في سقوط عمارة أو لمثقف يدير ظهره هي خيانة كبرى بامتياز.
جريدة الخليج