العاشق الذكوري الذي تشبب بنساء العشيرة مات حرقا
لعل الترجمة الفرنسية لديوان “سحيم” للشاعر السعودي غازي القصيبي التي أنجزها المستشرق الفرنسي لوك باربولسكو وصدرت عن دار لارماتان في باريس، ترقى بهذه القصيدة الملحمية الفريدة إلى مصاف شعر “الزنوجة”، بحسب المقولة التي ابتدعها الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور مع الشاعر إيميه سيزير، وتضعها في مقدم الشعر العالمي الذي استوحى أحوال العبودية، قديماً وحديثاً. فالقصيبي الذي استعاد حكاية سحيم، الشاعر العبد، الذي عاش في الأعوام الأولى الثلاثين للهجرة، جعل منه أنموذجاً إنسانياً، يخاطب البشرية جمعاء، ورمزاً للتحرر من الظلم الذي لحق به بوصفه عبداً أسود. إلا أن فرادة سحيم تكمن في امتهانه الشعر تحدياً لعشيرته، عشيرة بني الحساس، وانتقاماً لنفسه من نزعتها العنصرية أو “الشوفينية”، عطفاً على تبنيه صورة العاشق الشديد الذكورة الذي وقعت في حبه فتيات العشيرة، فشبّب بهنّ وأنشدهنّ أجمل القصائد وأشدها إباحية، مما زاد من اضطهاده وصولاً إلى الحكم بإحراقه حياً. وفي قصيدته الملحمية هذه استطاع القصيبي أن يحرّر العبد سحيم من هويته العربية ليجعله مثالاً يمثل شريحة هائلة من البشر الذين اضطهدوا عرقياً أو عنصرياً، جراء سواد بشرتهم.
من يقرأ الترجمة الفرنسية التي صاغها باربولسكو بتأنٍ معتمداً لغة قريبة من القارئ الفرنسي وخالية من التعقيد البلاغي والصنعة البيانية، يجد نفسه أمام نصين: نص يسرد قصة هذا الشاعر /العبد/ العاشق، ونص شعري تتجلى فيه هذه التجربة. لكنّ النصين متّحدان كل الاتحاد، وليسا منفصلين واحدهما عن الآخر. ومن يقارن بين الأصل والترجمة، وهما مثبتان معاً في الكتاب بالعربية والفرنسية، يشعر أن الترجمة حاولت أن تكون وفية كل الوفاء للأصل، حتى بدت في أحيان أنها تفسره شعرياً. ليس نص القصيبي سهلاً وكذلك الأبيات التي اختارها من ديوان سحيم، والترجمة هنا تتطلب خبرة وإلماماً بالعربية وبلاغتها. وكان لا بد أن تفوت المترجم – كل مترجم – ضروب الجناس والطباق مثلاً، وهي غير قليلة في الديوان. أليس في غاية الصعوبة مثلاً أن يُترجم إلى أي لغة أجنبية، هذا المقطع الذي تتصادى فيه حروف اسم الحبيبة أسماء: “أسماءُ أسماءُ / أعشق أسماءُ اسمَك / إسمُكِ أوسمُ إسمٍ / توسّمتُ في سمتهِ سمة المسِ والماس / والميسِ والوسم…”. لكن ترجمة باربولسكو بدت على مقدار كبير من السلاسة والعذوبة، وقد أسبغ على النص لغة واحدة استطاعت أن توحّد شعر القصيبي وقصائد سحيم التي اختارها القصيبي نفسه، في ما يشبه لعبة التناص.
تقنية التناص
اعتمد القصيبي في بناء قصيدته تقنية التناص، فانتقى أبياتاً عدة من ديوان سحيم وأدخلها في نسيج النص وكأنها جزء منه وليست طارئة عليه، بل إن الأبيات السحيمية كادت تذوب بمعانيها وليس بأشكالها وقوافيها في قصيدة القصيبي، خصوصاً أنه كتبها على لسان سحيم، فاسحاً أمامه المجال ليروي مأساته والساعات الأخيرة من حياته قبل مواجهة الموت حرقاً. إنها في معنى ما قصيدة قناع كما يقال في المعجم النقدي. ارتدى القصيبي قناع سحيم، تقمّص شخصيته، عاش تجربته، المريرة، استعان بأبيات جميلة وجريئة من ديوانه وكتب باسمه. يستهل الشاعر القصيدة قائلاً: “يعودون بعد قليل / زمان يطول ويقصر / لكن يعودون / كي يقذفوني في النار…”. هذا المطلع يسترجعه الشاعر أكثر من مرة دلالة على هاجس الموت بالنار، أقسى أنواع القتل. وفي ما قبل الختام يتنامى هذا الشعور المأسوي تنامياً تراجيدياً لحظة الاقتراب من عيش الموت حرقاً، فيعبّر القصيبي على لسان سحيم واصفاً المشهد القاسي قائلاً: “ها هو ذا الجمع يصخب حولي / تخرّ الحجارة من كل صوب/ وأُسحب بالحبل كالحبل / تقترب النار / أشعر بالوخز… الحرائق في قدمي / ثم تعلو وتعلو/ أُسحب كالحبل بالحبل / أُترك فوق اللهيب”. ويمضي الشاعر في وصف تلك اللحظات الرهيبة وصفاً مأسوياً حتى ليجعل سحيم يشم رائحة جسده محترقاً: “أفيق أرى بعض جسمي دخانا/ أشم الشواء وأغفو، أفيق وأغفو”. ثم يتخيل أباه بالقرب منه، جاء يأخذه معه ليقفزا فوق رؤوس الجبال، مثل وعلين، بعيداً وراء السفوح. وكان سحيم تخيل والده الذي مات وهو جنين في بطن أمه، يطل عليه صارخاً به: “مت مثلما عشت منتصب الرأس… مت مثل وعل”. وعندما يسأل والده كيف يموت الوعل، يقول له: “حين تموت سحيم/ ستعرف كيف تموت الوعول”. وهكذا يموت كالوعل، يصطحبه أبوه، يرتقي الجبال، أهل العشيرة يطاردونه ويتعثرون وراءه ويستمطرون الرماة، يصعد حتى ليصبح على ذروة الريح. وفي تلك اللحظات أيضاً يمجّد العبد العاشق الشعر الذي كان خير سند له قائلاً: “يا بورك الشعر/ يلسع كالنار، يحرق كالنار”. وهنا تفرّ حروف الشعر وتصبح عاصفة من لهب تلفح نار الأعداء فتطفئها. والشعر وحده يبقى، عندما تذوي كل الحرائق، “يشبّ على جبهة الدهر”. وشاء القصيبي أن يدفع شاعره المتمرد والمرتكب فحشاء الذكورة أن يتوب إلى خالقه قبل إحراقه، مثلما فعل شعراء كثر، ومنهم على سبيل المثل الشاعر المهرطق أبو نواس. فها هو سحيم يخاطب ربه مخاطبة وجودية معتبراً أنه سيمر بجهنم الأرضية التي يحرق فيها العبد عبداً آخر، فالإنسان أياً يكن هو عبد الرب وليس عبد عبده، ولم يرد سحيم إلا أن يكون عبداً للرب، يقول: “وهل من ملجأ منك إلا إليك؟”، ويضيف “عبدك يعلم أنك أعدل من أن تعذّب بالنار في الأرض عبدك / ثم تعذّبه في جهنم”، ويكمل:”عبدك يطمع بالحور في جنة الحور/ يارب / عبدك وحده/ وحدك/ آمنت أنك ربي وحدك”.
الشاعر العاشق
مثلما وجد سحيم في الشعر وسيلة وغاية في وقت واحد، وسيلة لمواجهة حال العبودية وعنصرية العشيرة، وغاية تجسد حال الارتقاء والتسامي، وجد أيضاً في الحب على اختلاف وجوهه، تعويضاً نفسياً، لا سيما الحب المقترن بالجنس الذي حقق عبره ذكوريته جاعلاً منها درعاً تقيه أسهم الكراهية والحقد، وتفرض شخصه كرجل مميز يعشق نسوة العشيرة ويشبعهنّ ولا يتوانى عن التشبيب بهنّ تحدياً لسلطة العشيرة. لكنّ ذكوريته “المرضية” أو النرجسية كانت مرفقة دوماً برقة، هي رقة الحب الروحي الذي لم يستطع أن يواريه. وعلى الرغم من تعدد مغامراته العشقية فهو كان يعرف دوماً أحوال الوجد، فلم يكن عشقه غريزياً صرفاً. فحين عشق سمية منذ الصغر حوله العشق حراً تمام الحرية. بل جعله كما يقول: “أبهى الرجال /وأجمل من هؤلاء الشديدي البياض”. وبات على قناعة أن “دهاء السواد” يتحوّل عند لقاء الجميلات حبلاً يشد الجميلات نحوه. ويعلن أنه “عبدهنّ” قائلاً: “كيف أطيق فرارا / إذا الجميلة قالت تعال”. وعندما تدعوه أمه إلى الاعتذار من العشيرة جراء تشبيبه بنسائها وإلى الزعم بأن القصائد الإباحية هي من صنع “رواة الوقيعة”، لينقذ نفسه من غضبهم، يرفض، مؤكداً لها أنه لا يخشى الموت الذي كان “صديقي منذ البداية/ كان رفيق خطاي”.
أحب سحيم النساء حباً أراده عابراً على الرغم من إغراقه أحياناً في الوجد والشوق. بعد سمية وأسماء، تأتي عميرة “فتاة البراكين” التي ما إن تلمسه حتى” يتحوّل فحمي جمراً”، ثم تحل دعد ثم ليلى ثم بثينة التي كانت تنتقم من زوجها بخيانته مع سحيم فيضاجعها من غير حبٍ كأن يقول: “كانت تجيء إذا زوجها نام/ تشهر كل خداع الثعالب كي تستثير/ وما كنت أعشقها / كنت أسلمها جسدي/ كي تمارس فيه انتقاماً من الزوج”.
كان لا بد من ترجمة قصيدة “سحيم” إلى الفرنسية، فهذه القصيدة الملحمية المتفردة في قضية العبودية والذكورة والحب، تحتاج فعلاً إلى الخروج إلى لغات أخرى، فهي تقدم أنموجاً فريداً يمثله “سحيم”، طالعاً من عمق التاريخ، يخاطب البشرية كلها، خصوصاً أن العبودية ما برحت إحدى المسائل الشائكة التي يتخبط فيها عالمنا، وإن اتخذت هذه العبودية مظهراً آخر وتبدّت في أشكال أخرى.