لقد بدت وسامة سعيد عقل وأناقته المفرطة وكأنهما الوجه الآخر لوسامة لغته ولأناقته الأسلوبية، كما أن ترفعه الأخلاقي ومنظومة القيم التي اعتنقها في حياته كانا متساوقين تماماً مع ما دافع عنه في شعره من مبادئ ومُثل ومفاهيم تتعلق بالنبل والشجاعة والشهامة والتعفف وكرم النفس. وهو إذ يربط الشعر بالفروسية لا يكتفي بدحض فكرة الشاعر الصعلوك التي جسدها عشرات الشعراء عبر العصور، بل يقترب إلى حد بعيد من صورة الشعراء الفرسان في القرون الوسطى، على أن كبرياءه ونرجسيته المتفاقمة ظلا يحولان دائماً دون التوله في الحب، أو الوقوع فريسة لما يرى فيه تخلياً عن الكرامة وإذلالاً للنفس. وإذا كان عقل يختلف مع المتنبي فيما يتعلق بعزوفه عن مديح الحكام، فإنه يتشاطر معه في الفحولة، وفي العصب الذكوري للغة، كما في تفاقم الأنا وامتداح الذات. ولعل توقه للوصول إلى السلطة السياسية على جميع مستوياتها، الذي لم يصبه منه سوى الفشل والإخفاق، لم يكن سوى تعبير جلي عن الرغبة الجامحة في الجمع بين سلطة اللغة التي تحتضنها الموهبة العالية، وسلطة السياسة والحكم التي لا تجد ما يسندها على أرض الواقع. وما التضخيم المفرط لصورة لبنان وحجمه في شعر سعيد عقل ونثره وخطبه المنبرية سوى تضخيم من نوعٍ ما للأنا الفردية التي حاول الشاعر عامداً مماهاتها مع «أنا» الجماعة، حيث لا بد للشعر، إزاء تواضع الجغرافيا، أن يتكفل بتصحيح الخريطة وتكبير الأحجام: «ومن الموطن الصغير نرود الأرضَ، نذرّي في كل شطّ قرانا \ نتحدى الدنيا شعوباً وأمصاراً، ونبني، أنّى نشأ، لبنانا».
يبدو العالم عند سعيد عقل مرسوماً في الذهن، ومستخلصاُ من مُثل عليا ونماذج أولية وتصورات مسبقة لا صلة فعلية لها بالواقع المعيش، لذلك فليس للمدن التي يكتب عنها، مثل عمان والشام وبغداد ومكة والقدس وغيرها، مرجعية على أرض الواقع، بل على أرض البلاغة والتأنق الجمالي، وكذلك الأمر مع النساء والأوطان والأماكن التي يقاربها شعره. وإذ يستشعر عقل أن الواقع الراهن ليس كافياً للبرهنة على تصوراته، يعمد إلى أسطرة التاريخ، كما في قدموس وبنت يفتاح، أو يختلق من عندياته كثيراً من الأساطير التي تعزز لديه نزعة التفوق النيتشوي. والشعر عنده هو بدوره مركّبٌ أسطوري يحلّق فوق الحياة، ولا يصطدم بمادتها الترابية وشقائها المرهق ومكابداتها اليومية. من هنا، نفهم اشتباكه النقدي مع إلياس أبو شبكة، واحتجاجه الدائم على شعرية الألم والتأوه الرومانسي والرخاوة العاطفية. ومع تأكيد عقل على أهمية الموهبة الفطرية بالنسبة للشاعر، فإنه يلتقي من جانب آخر مع الرمزيين الذين يربطون الشعر بالكدح والصناعة والسعي المضني لتجريد اللغة من زوائدها، كما هو حال النحاتين مع الصخور والمعادن. هكذا، تصبح الكتابة رديفاً للهندسة والنمنمة اللفظية، وللعُروض البلاغية التي عصيت مجاراتها على كثير من مقلديه والمفتونين بقصائده. ولأن صاحب «رندلى» كان مهجوساً بالفخامة اللفظية والجمال التعبيري، بمعزل عن طبيعة الموضوع المتناول، فإنه لا يخلف حتى في مراثيه أي شعور بالحزن أو التفجع والخسارة، بل إن ما يخلّفه في دواخل قرائه وسامعيه هو الشعور بالنشوة والذهول إزاء براعة التأليف وغرابة الصور وتراقص الإيقاعات. كما أنه لا يكتفي بالتنافس مع الأحياء على ذرى الحياة، بل هو يلاحق الموتى إلى قبورهم، ليقاسمهم حصتهم من العبقرية والمجد، فيقول في رثائه لشولوخوف: «لئن تحكِ عن نهرٍ، فشطر قصيدتي \ يطلّ، وهزّ السيف يكتمل النهرُ \ أغني أنا لبنانَ أجمل ما شدا \ كناري غصنٍ رقّ، لكنه نسرُ \ وأنت تغني رقعة من جبالها \ جبالٌ عليها متعباً يتّكي الدهرُ». وهو إذ تحتفي زحلة بذكرى أحمد شوقي، لا يتوانى عن تذكيره بأن الإمارة على الشعر ليست مسألة محسومة تماماً، وأنه يحاوره من موقع الند، إن لم يكن من موقع المتقدم: «على اسمك بين الحور أَغوى وأهدرُ \ أنا النهر، شوقي، أيّنا اليوم أشعَرُ؟». وفي غير محاضرة له، كان عقل يذكّر الحاضرين بأن الفارق بين شوقي وبينه يمكن أن يختزله تعريف الأول التقريري للشعر، إذ يقول: «والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة \ أو حكمة، فهو تقطيع وأوزانُ»، وبين تعريفه هو لهذا الفن عبر بيتيه المميزين: «الشعر قبضٌ على الدنيا مشعشعة \ كما وراء قميصٍ شعشعتْ نجُمُ \ فأنت والكون تياهان، كأس طلى \ دُقّت بكأسٍ وحلمٌ لمّه حلٌمُ».
وإذ تحتل المرأة الحيز الأكبر من شعر سعيد عقل، يعمد الشاعر بالمقابل إلى أسطرتها وتنزيهها عن لواحق الغرائز الجسدية والدنس الشهواني. صحيح أن مجموعات من مثل «دلزى» و«رندلى» و«أجمل منك؟ لا»، تكتظ بالإشارات الجسدية المتصلة بالعنق والخصر والفم والنهد والساقين، ولكن المرأة في هذه الإشارات المتناثرة تبدو أقرب إلى المنحوتة أو الأنموذج الجمالي المنتزع من الأحلام والتصورات، لا من الحضور الواقعي للمرأة التي نعرفها. النساء هنا وليدات الخيال ومخترعاتٌ بالكامل، بدءاً من الأسماء غير المألوفة، مثل أغنار ورندلى ونلّارا وجلنار ونيانار ومركيان، وحتى الجسد الفينوسي الذي يخلصه الشاعر من شبقيته ليحيله إلى طقس جمالي طهور، وهو ما يظهر بوضوح في قول الشاعر مخاطباً المرأة المتخيلة: «سكناكِ في الظن، وهذي الدّنى \ تلهّفٌ باكٍ وقلبٌ حسودْ \ كُوّنت من توقٍ إلى الحسن، لا منكِ \ ومن مدّ يدٍ صوب جودْ». أو المرأة القائمة على شفا التحقق: «هممتِ بأن تخطري في الوجود ولم تفعلي». أو المرأة المتعالية عن ربق المحسوس: «أنا لا لأُضمّ ولا لأشَمّ \ أنا، دعني، حلمٌ يُحلمْ». أو المرأة المستبعدة والمؤجلة «ظَلّي على شفتي شوقهما، وفي جفني ذهولَهْ \ ظلي الغد المنشود يسبقنا الممات إليه غيله».
ولأن مثالية سعيد عقل المتعالية تدفعه إلى استبدال «سفليّة» الحياة باللغة المتعالية، فهو يستبعد من الشعر كل ما يراه غير لائق بمنمنماته المصنوعة بإتقان، وبمنحوتاته النظمية المتخففة من الزوائد. وهو إذ يفترق عن الحداثة في احتفائها بنثرية التفاصيل، كما بالمعيش واليومي والهامشي، يلتقي معها في الخروج على رتابة القول الشعري النمطي والمستهلك، وفي البحث عن منظور للكتابة يحتفي بالجديد والطازج والمغاير إلى حد الإدهاش. وإلى صوره الغريبة وغير المألوفة، ثمة في شعره تراكيب وصياغات واشتقاقات لم يسبقه إليها أحد من شعراء الخليل، وثم معرفة عميقة بالموسيقى مكنته من التصرف بالأوزان والبحور، خصوصاً المتروكة منها، كالمضارع والمنسرح والمجتث، إلى نوع من الرقص الماهر، أو التطريز الجمالي، أو اللعب المجاني. كما أن وصوله بالنموذج الخليلي إلى ذراه الأخيرة سهل طريق التغيير لجيل جديد من الرياديين الذين بادروا عبر شعر التفعيلة إلى خلخلة البيت الشعري وأنساقه الإيقاعية الرتيبة. وإذا كان سعيد عقل قد أهدى لفيروز بعض أجمل نصوصه، وشاطر الأخوين رحباني مشروعهما الفني والإبداعي، فإنه شكّل – وما يزال – الرافعة الشعرية والآيديولوجية لفكرة الوطن المتفرد، وبات جزءاً لا يتجزأ من الأساطير المؤسسة للكيان اللبناني. ومن الخطأ بمكان، أخيراً، أن نحاكم سعيد عقل على آرائه في السياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد، فمعظم تلك الآراء لا يستند إلا إلى تصورات وتهويمات نابعة من شعوره بالتفوق والعظمة، ومن كونه المبدع الموسوعي المحيط بكل شاردة من شوارد العالم وكشوفه العلمية والأدبية. أما دعوته إلى التخلي عن العربية الفصحى لمصلحة المحكية أو الحرف اللاتيني، فأبلغ ردّ عليها هو شعره الفصيح الذي يتجاوز بأشواط نماذجه المحكية. لكأنه وقد وصل بلغة الضاد إلى «سكون الحسن»، وتخومه الملاصقة للصمت والإمحاء، أراد أن يفعل بها كما فعل مايكل أنجلو بالتمثال الذي كاد يستوي بشراً سوياً بين يديه، فصاح به وهو يكسره من فرط الدهشة «انطق، يا موسى!»