قبل نحو خمسة عشر عاماً أجرت عالمة نفس أمريكية دراسة حالة على خريج جامعي في أواخر العشرينات من عمره، عانى في طفولته إهمال وسوء معاملة والديه، ما خلق في نفسه شعوراً بالنفور من أي علاقة قريبة مع الآخرين، لأنه يحس بأنها لن تعود عليه إلا بالأذى، لذا فإنه عاش وحيداً منطوياً على نفسه.
حتى في علاقته مع الطبيبة النفسية التي تعالجه واسمها كارين ريجز بدا الشاب حذراً ومتردداً، وكان في نهاية كل جلسة علاجية معه يردد: لا أعلم إذا كانت الجلسة مفيدة أم لا. كانت الطبيبة حريصة على أن تنتشل الشاب مما هو فيه، وتساعده على مد جسور التفاهم مع الآخرين في محيطه.
بالتدريج بدأ حذر الشاب تجاه مُعالِجته يتبدد شيئاً فشيئاً، فأصبح يحكي لها قصصاً عن طفولته الصعبة، وهو أمر حمل الطبيبة على تشجيعه، موضحة له أن تلك المعاناة جعلته يحكي قصصاً عن حياته، حتى لو لم تكن كلها صحيحة، كافتراضه سوء النية فيمن حوله، وأن أي اقتراب منهم سيكون مضراً له.
وهذا التشجيع جعل الشاب يدرك، ولو بالتدريج أيضا، أنه يمكن أن يكون شخصا مفيداً، وهناك ما يمكن أن يُحكى عنه، ما مكّنه من التعافي وأن يصبح شخصاً سوياً وبات متميزاً في المجال الأكاديمي.
هذه الحكاية التي قد تبدو نمطية إلى حدٍ ما، لم تأتِ في سياق حديث حول خبرات معينة في علم النفس، كما قد يتبادر إلى الأذهان، وإنما في سياق حديث حول الأدب، وحول القص تحديداً، في تدليل على أن سرد القصص، بما في ذلك كتابتها، قد يشكل نوعاً من المساعدة للذات في التخلص مما يُثقلها من حكايات، بإطلاق سراحها من أسر نفوسنا، فنحرر هذه النفوس من ضغط الحكايات المكبوتة على هذه النفوس، ونحرر تلك الحكايات نفسها من أسرها داخل نفوسنا، لتتنفس الهواء وتستوطن الحياة.
على هذا قد يترتب سؤال مهم: أيكتب الكتاب القصص من أجل ذواتهم فقط، أي مساعدة هذه النفس على ما يعتريها من ضغوط، وتحقيق الخفة التي ينشدها كل كائن من أسر ما يثقله من قيود، أم تراه يكتب لسواه، أي للذين سيقرأون ما كتب.
تلزمنا إجابة مختلفة تجنبنا مثل هذا النوع من السجال، فالكاتب إذ يقص القصص الساكنة في روحه يحقق الغايتين، فهو إذ يكتب لنفسه يكون قد كتب للآخرين.
جريدة الخليج