باحثون يناقشون جدلية التراث والهوية في المجتمعات الثقافية
عمان- ناقش المشاركون في “ملتقى الأمن الثقافي” أدوات التصدي للردة الثقافية والفكرية في المجتمعات، وفق خطط مدروسة محكمة، معتبرين أن اللغة العربية حافظة للتراث وصمام أمان الهوية.
وبينوا في ختام اعمال “ملتقى الأمن الثقافي”، الذي نظمته مؤسسة عبد الحميد شومان ومؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، في مقر منتدى “شومان الثقافي”، واستمر على مدار يومين، بمشاركة نخبة من الكُتاب والمثقفين العرب وأصحاب الرأي، أن قيمة التحصين المعرفي في حياة الأفراد والجماعات، بما يحققه للأخرين وللتاريخ والمجتمع والحياة من نتاجات ثقافية ومعرفية.
فيما اشتملت فعاليات اليوم الثاني (الختام) على ثلاث جلسات، الأولى أدارها د. محمد المقدادي (الأردن)، وتحدث فيها كل من: د. حسين العوري (تونس)، ود. علي الطراح (الكويت) الذي أعتبر في ورقته “دور المؤسسات الإعلامية والبرامج الجماهيرية في تنمية الوعي الثقافي”، أن المرحلة التي نمر بها “حاسمة”؛ لكونها تحمل بطياتها تحديات غير طبيعة تهدد الوجود الانساني بثقافته ومكوناته الحضارية.
ولفت إلى أن التقنيات السريعة اثرت بتكويننا العقلي ورسمت خطانا ورؤانا الحاضرة والمستقبلية، حتى كدنا نشعر بحصار لأفكارنا، وقيود لا نملك فكها طالما البيئة السياسية رافضة للعقلانية الإنسانية.
وبحسب الطراح، فإن الوعي بمفهومه العام يعبر عن حالة عقلية تمكننا من إدراك المحيط والذات، ومن خلاله تتكون الاتجاهات وتتحدد اشكال السلوك، وتتخذ المواقف، مبينا أن ضمن هذا المفهوم عرف ما سمي بـ “الوعي الزائف” الذي يتشكل بفضل عوامل التنشئة الاجتماعية وفق رؤية غير مطابقة مع الواقع المعاش.
وذهب إلى أن حالة الوعي الثقافي ليست “جامدة” بقدر ما هي “مرنة” تتشكل من خلال عمليات عقلية ونفسية تلعب فيها البيئة الخارجية قوة في تشكلها، وتولد نتيجة لسياسات غير ناضجة، حيث تقود الانسان، في المحصلة، إلى حالة الضياع أو الاغتراب.
بدوره، أستهل د. حسين العوري في ورقته “التراث ودوره في حفظ الهوية وتأصيلها”، بالإشارة إلى قول الكاتب العربي “ما أضاعت أمة ذكرى ثقافتها إلا ذهبت ولم يبق منها إلا أمساخُها”، متسائلا في هذا السياق، ما التراث؟ وما الهوية؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وهل التراث واحد أم متعدد؟ وهل الهوية جامدة أم حركية؟ وإذا كان التراث متعدّدا فأي وجه من وجوهه يحمي الهوية؟
وقال “من المعلوم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد، على وجه الأرض، القادر على إنتاج مثل هذا التراث لتميّزه عن الحيوان بقابلية اللغة والتفكير والعمل، إذ تحتل اللغة منزلة مركزية في حفظ التراث ونقله من جيل إلى آخر شفويا أو مكتوبا”.
وأضاف ” تشكل اللغة، إلى جانب العادات والتقاليد، أفضل قناة وأقدرها على نقل تراث الأسلاف إلى الخلف، وهي ذاكرة الأمّة تختزن فيها تراثها وقيمها ومفاهيمها”.
الجلسة الثانية ترأسها د. إبراهيم غرايبة (الأردن)، واشتملت على ورقتين، الأولى للدكتور صلاح جرار (الأردن) بعنوان “التعليم والأمن الثقافي”، والثانية حول “الرصيد المعرفي للأمن الثقافي” للدكتورة عفاف البطاينة (الأردن).
جرار أوضح أنه مثلما يحتاج البناء العمراني إلى دعائم تسنده وتقيه خطر الانهيار، ومثلما يحتاج الجسم إلى ما يحقق مناعته وقوّته في مواجهة الأمراض والآفات، فإن العقل والروح محتاجان أيضاً إلى ما يحافظ على توازنهما وسلامتهما، وكذلك المجتمعات تحتاج إلى ما يحفظ لها أسس قيامها وبقائها واستمرارها ويحافظ على هوّيتها المتمثّلة في ثقافتها.
وبين أن الخلل الذي يلحق بالهوية والثقافة يؤدي إلى اهتزاز قواعد المجتمع وتهديد وجوده، لكنه أعتبر كذلك أن المحافظة على الهويّة الثقافية بعناصرها المختلفة وبالوسائل التي تحمي الناشئة من الانحراف الفكري والقيمي والتصدي للأخطار التي تهدد هذه الثقافة، أنتجت ما يعرف بـ “الأمن الثقافي”.
وبحسبه، فإن الأخطار التي تهدد الأمن الثقافي، تزداد بصورة متسارعة؛ بسبب الثورة الرقمية وثورة المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة وتدفّق الثقافات بشكل هائل والانفتاح على المعارف والعلوم والآداب والأفكار انفتاحاً مطلقاً والعولمة الثقافية.
ووجد جرار أن الخطر على الأمن الثقافي قد لا يكون خارجياً دائماً؛ من خلال الأفكار والعقائد والنظريات والمسببات، لكنه قد يتعرض لكثير من الثغرات والإشكالات والتناقضات وسوء التفسير للموروث الثقافي، وهو ما يدعو، وفق جرار، إلى ضرورة مراجعة هذا الموروث وتنقيحه وتنقيته من الشعوذات والأباطيل والأغاليط والأوهام.
أما عفاف البطاينة فرأت أن المعرفة من مؤشرات تقدم الأمم وقدرتها على خلق مكانة اقتصادية وسياسية وعلمية تمكنها من التنافس، والحفاظ على استقلاليتها وحقها في تقرير مصيرها، وهي، بأشكالها كافة ثروة معنوية ومادية.
واعتبرت أن مفهوم الأمن الثقافي؛ هو مفهوم مرتبط بالحريات بالدرجة الأولى: حرية الأفراد والجماعات في تشكيل هويتها الشخصية والجماعية، وحرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية الفكر، والحرية في اختيار أسلوب العيش، والحق في الانتماء العرقي، وحرية الانضمام إلى المؤسسات، وحرية التجمع، والحرية في المشاركة السياسية والاجتماعية.
وعرفت البطاينة المعرفة، بانها رأسمال استرتيجي والمحرك الأكبر لعمليات الإنتاج؛ نتيجة لأهميتها على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول. فيما أوضحت أن النمو في المعارف وتطبيقاتها والتعليم والعلوم والتكنولوجيا؛ يقود إلى التنمية الإنسانية الصحيحة والمساواة وتحرر قدرات البشر وتلبية الاحتياجات البشرية والحفاظ على البيئة.
بينما أدار الجلسة الثالثة د. فايز الصياغ (الأردن) وتحدث فيها كل من د. سعد البازعي (السعودية) حول “أثر الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية على اللغة العربية”، ود. باسم الطويسي (الأردن)، ود. بثينة الخالدي (تونس).
البازعي بين أن الثورة التكنولوجية أحدثت انفجاراً معرفياً، بما تتيحه التطورات على مستوى التقنية المعاصرة بشقيها المادي والافتراضي، من خلال أجهزتها العديدة كـ “الحواسيب وأجهزة الاتصال، والمحتوى المعلوماتي/المعرفي في المواقع والشبكات والتطبيقات على اختلافها”.
واعتبر أن المعرفة التي أدت إليها التطورات في مجال التقنية ليست كل المعرفة المتاحة للبشرية وإنما هي جزء منها، رغم أنه كان كافياً لإحداث آثار مهمة على اللغات بصفة عامة، لاسيما اللغات الحية الكبرى ومنها اللغة العربية، مؤكدا أن ثمة سيولة شعبوية رافقت المستجدات التكنولوجية، مثلما رافقتها سيولة معرفية وعلمية وثقافية عامة.
وفي تقدير البازعي، فإن مشكلة تأثير التقنية المعاصرة في الكتابة وتهدديها بتغيير بنية الجملة العربية تتمثل في غياب الحركات الإعرابية، والضعف العام في معرفة قواعد اللغة، إضافة إلى جملة مشكلات تواجهها اللغة العربية في عصر الكتابة السريعة، وعدم توفر الحروف المقابلة لبعض ما تحمله اللغات الأجنبية من حروف وأصوات.
من جهته، بين عادل الطويسي أن دراسة العامل الفكري والثقافي في مراحل التحولات الكبرى تساعد بشكل عام على التنبؤ بسلوك الفرد والجماعة وحتى عموم أفراد المجتمع ومدى استعداداتهم وتقبلهم لتطورات الأحداث وردود أفعالهم على الأزمات والتحولات المستقبلية.
ورأى أن شبكات الاتصال الاجتماعي لم تعد مجرد أداة اتصالية للتشبيك الاجتماعي أو وسيلة للترفيه، لكنها تقوم بدور متعدد الأبعاد، سياسي واجتماعي وثقافي، وأداة لإعادة تشكيل الهويات على مستويات مختلفة، وكذلك أداة لإعادة تشكيل الثقافات المجتمعية.
واختتمت الجلسة الثالثة مع ورقة بثينة الخالدي حول “هل الأمن الثقافي استراتيجية دفاعية”، التي اعتبرت أن الأمن الثقافي من الموضوعات الحيوية التي يطرحها الواقع العربي المعاصر، الذي عانى طويلا من الاستعمار الأوروبي وتبعيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وحول ماهية العولمة، بينت الخالدي أن العولمة هي طريقة غير مباشرة للسيطرة على المجتمعات غير الغربية وحملها على اعتناق ثقافاتها عندما فشلت فكرة “عبء الرجل الأبيض” في تبرير الاستعمار السياسي والاقتصادي.
وبحسبها، فإن محاولات الإصلاح التربوي في تونس تعود إلى بداية القرن العشرين، العام 1902، حين أصدر الشيخ محمد بن عاشور كتابه “أليس الصبح بقريب؟”، حيث شخص فيه واقع التعليم وكيفية إصلاحه.
يأتي الملتقى تنفيذاً لمذكرة التفاهم بين مؤسسي “العويس” و”شومان”، العام 2010، وتقتضي تنظيم فعاليات فنية وندوات فكرية واسابيع ثقافية تعقد بين الإمارات والأردن.
يشار إلى أن “العويس”؛ مؤسسة تعنى بتكريم الأدباء والمثقفين العرب مرة كل سنتين، وذلك عن نتاجهم في كل من مجالات “الشعر، الرواية، المسرحية، الدراسات الأدبية والنقدية، الدراسات الإنسانية والمستقبلية”، إضافة إلى جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي، كما لها أنشطة ثقافية عديدة داخل الامارات المتحدة، وكذلك على مستوى الوطن العربي.
أما “شومان”؛ فهي مؤسسة لا تهدف لتحقيق الربح، تعنى بالاستثمار في الإبداع المعرفي والثقافي والاجتماعي للمساهمة في نهوض المجتمعات في الوطن العربي من خلال الفكر القيادي والأدب والفنون والابتكار المجتمعي.