تلزم سنوات طويلة من التراكم الفنيّ والتطوّر الإبداعيّ والاحتشاد في ذاكرة الثقافة واللّغة ليكون بين يدَي قارئ الشّعر مثل هذا العمل الباهر، هذا النشيد-الكتاب الذي سمّاه مبدعه، الشاعر الأردنيّ أمجد ناصر، “مملكة آدم”، والذي صدر قبل شهور قليلة عن منشورات المتوسّط في إيطاليا.
يتصاعد النشيد في ظلّ المأساة السوريّة، التي يتّخذها الشّاعر أنموذجاً حيّاً لمآسٍ أخرى لا ينساها، هو الذي بدأ مسيرته مناضلاً في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، التحق بها عن تعاطف ونُبل. من خلالها عرف أمجد بيروت، وبعد الاجتياح الإسرائيليّ اختار الإقامة في لندن، وفي هاتين المدينتين وقبلهما في بلاده الأمّ انفتح على مسرح الحداثة العالمية، نظر إليها بشغف وبعين مشبعة بثقافة عربية متينة. هكذا توصّل، مجموعة بعد مجموعة، إلى تأسيس عمل شعريّ يُعرب عن صلابة كبيرة قائمة على مرونة وجدّة، وعن بناء لغويّ وشكليّ مبرم ينهض على إشراق في الأسلوب ونصاعة في الأداء.
يرتكز هذا العمل على تراث إنسانيّ واسع يتضمّن بضع التفاتات صوب المعرّي، سواء في “رسالة الغفران” (ما حدا بالناقد صبحي حديدي، في تقديمه العميق للكتاب، إلى تسميته، منطلقاً من أجواء النشيد نفسه، “رسالة اللّا غفران”)، أو في قصيدته الشهيرة في رثاء صديقه أبي حمزة الفقيه؛ وصوب الموروث العجائبيّ الدينيّ، بدءاً بقصّة الإسراء والمعراج؛ وربّما صوب ابن شهيد الأندلسيّ، صاحب “رسالة التوابع والزوابع”، أيضاً. بيد أنّ هذا التراث إنّما تشكّل كوميديا دانتي محوره الصلب. وكما هو معلوم، ليس عمل دانتي عجائبيّاً محضاً ولا هو بأجمعه من بنات خياله. لقد جعل الشاعر الفلورنسيّ رحلاته إلى أقاليم العالم الآخر الثلاثة، الجحيم والمطهر والفردوس، زاخرة بلقاءات مع شخصيات تاريخيّة، سياسية وفكرية، عاصر هو بعضها واستقى بعضها الآخر من التاريخ الإنسانيّ.
في واحدة من اللّفتات البارعة التي عودّنا عليها خورخي لويس بورخيس، كتب الشّاعر والكاتب الأرجنتينيّ أنّ دانتي، أو قناعه الذي يتكلّم في كوميدياه، قام بكلّ هذه الأوديسة الفضائية عبر أقاليم العالم الآخر الثلاثة لا لشيء إلّا ليظفر بملاقاة حبيبته بياتريشي من جديد ويحاورها، إذ جعلها تنزل من أجله إلى المطهر ثمّ تقوده في مختلف السّموات. ليست فرضية كهذه غريبة عن عمل دانتي، بيد أنّ ما لا يمكن إغفاله هو أنّ المحاورات المشار إليها مع الشخصيات الفعليّة، والبواعث المقدَّمة لاستحقاقها مشاهد العذاب في الجحيم، والسّكون الأبديّ في المطهر، والغبطة السرمديّة في الفردوس، هذا كلّه إنّما يدفع عن عمل دانتي صفة نشيد عجائبيّ أو خياليّ محض. فهذه المحاورات إنّما تقدّم شهادات بليغة على تجارب مهولة في معيشنا الأرضيّ، وعلى بعض أهمّ مآزق بلاد الشّاعر في زمنه أو قبله. مآزق ووجوه ظلمٍ دفعت به هو نفسه إلى المنفى وأصابته بالاعتلال الذي أودى بحياته.
المثال الدانتي
منطلقاً من المثال الدانتيّ الرّفيع، ومحتفظاً بدرس الحداثة باعتبارها فنّ اقتضاب وكثافة، يصنع أمجد ناصر سيناريوهات للعذاب من ابتكاره المحض. وبادئ ذي بدء يدفع عن عمله شبهة الخيال، الأخرويّ بخاصّة. فالجحيم التي يصوّرها، وكما ينتبه إليه جميع من يقرأون عمله هذا، إنّما هي جحيم أرضيّة ومعاصِرة بامتياز: “قد تفكِّر أنك في الآخرة، / وهذا خطأٌ/ فأنت لا تزال في الحياة الدنيا/ ولكن تشابهتْ عليك الصور”. كما يدرك شاعرنا جيدّاً أنّ الملحمة لم تعد ممكنة في مقاييس الأدب الحديث، وكذلك بباعثٍ من طبيعة الواقع الفاجع الذي يصوّره، واقع لا مكان فيه للملاحم: “الساعات هنا تتوقّف عن العمل/ والقلب عن القصيدة الطويلة التي ضخَّ فيها دماً كثيراً. / اذهبْ مثلنا في التيه/ ادخلْ في هذا الليل الأرقط، / فلن تصادفَ في النواحي، / آلهةً ولا أبطالاً مثلما في الملاحم/ وحكايات ما قبل النوم، / فلم تعدْ هذه الصحراء، / التي جئتها بيدين مرفوعتين/ تنجبُ أنبياء…”. ولذا تمسّك أمجد بأدائيّات النشيد الطويل، مراهناً بروعة على وجازة الصّور والفقرات، بما تستلزمه من تكثيف وليونة وبراعة في التشكيل الشعريّ. بلمسة واحدة، وبعبارة تكاد تكون يوميّة الأداء، يفجّر صورة ناطقة عن آلات التدمير الجهنّمية: “راحوا يرموننا على عجلٍ في العربات/ التي ظلّت تعملُ على مدار الساعة”.
صنعَ لمشاهد الجحيم صوراً مبتكرة ودالّة، وزاوجَ لغة التاريخ بخطاب الشعر، وواءمَ بين عمل كلٍّ من الفكرة والصورة. وإذا بالمشهد المعيش يتمخّض عنده عن تعجيب أو تغريب بهما ينال المعيش كلّ قدرته على أن يصدمنا: “سترى سماءً خفيضةً/ تتساقطُ منها البراميل بدل الأمطار، وكذلك: “انظرْ، / الأحصنةُ الحديديةُ تعبُّ الدمَ وتنفثه من مناخيرها”.
الذكرة الشعرية
بقوّة الإيجاز واللّمح ذاتها، يأتي اختراق أمجد ناصر للجحيم في قصيدته الكبرى هذه ليصوّر نماذج فكرية وتاريخية، فيقدّم ثلاثة وجوه شعريّة آثمة، أحدها بالكسل والأنانية والسّطو الأدبيّ، والثاني بمناصبة الشبّان العداء، والثالث بالخيانة والتّدليس، ويضيف رابعاً يتعاطف معه ويلقي على مأساته نظرة إخاء وتفهّم. بيد أنّ الأكثر إلفاتاً بين كلّ سكّان الجحيم يظلّ هو الرجل-الزرافة، يرفع منه الشاعر أنموذجاً للطاغية الذي ذهب في ممارسته للعنف إلى الحدّ الذي يجلب له في الجحيم أكبر عنف ممكن.
قلنا إنّ أمجد يصدر في عمله هذا عن أعمال عديدة تسكن ذاكرته الشعرية وذاكرات القرّاء. بيد أنّه لم يعوّل فيه على ممارسة التناصّ (خلا تقسيمه الوجيز للجحيم على طبقات عدّة، كما فعل دانتي)، بل أحسن صنعاً بتفاديه. لقد جاء نشيده، كما في شعر إليوت والسيّاب، مكتنزاً بكثافة مرجعيّة تلمّح إلى الشيء ولا تستظلّ بتعبيره. إنّه يجعل في نشيده مصادره تشعّ من دون أن ينسخها أو يحاكيها. وهنا نرى فارقاً كبيراً لا بل جذريّاً بين عمله هذا وأعمال معاصرة أخرى تتوسّل التراث لتعبّر عن هيمنة العنف، فاقها عمل أمجد في الشاعريّة وفي براعة الأداء والابتكار الدراميّ والتصويريّ وفي استنطاق التاريخ. بعض هذه الأعمال يقتبس شذرات من التراث العربيّ تصوّر آليّات التعذيب، ويذيّلها بأبيات أو عبارات لا تضيف إليها ولا تنجح في توظيفها، فتظلّ القبسات وحواشيها بالغة النأي عن مأساة الإنسان المعاصر، فقرات طافية في سماء تراث مستلهَم بارتباك وغشامة. أمّا أمجد ناصر في قصيدته الطويلة هذه فيبتكر على معرفة، ويتعمّق على إيجاز، ويحتفظ لكلّ واحدة من مشهديّات نشيده الممسرَح ببراعة، نقول يحتفظ لها بكامل اضطرامها الرّاهن وأثرها البعيد.
جانب آخر ضمنَ لعمل أمجد هذا إشراقه الكبير، هو أنّه لم يدَع الحلكة تسيطر على نشيده، بل أضاءه بعلامات حبّ وبؤر مقاومة (الإهداء إلى الأب دالوليو مثلاً)، ونثرَ فيه مشاهد حنانٍ وذكريات ألفةٍ هي كلّ ما يبقى للكائن بعد انحسار كلّ سند وكلّ ضمانة وكلّ عون: “لأمّي طريقتُها في النواح الذي يجعلُ الموتَ كوخزةِ إبرةٍ. تعالي يا أمي من وراء الحجرِ والتراب، من تحت أعشابِكِ المُداويةِ التي تَبِعَتْكِ إلى القبر ونوحي على هؤلاء المُمَدّدين بلا أوصالٍ، بقصباتٍ هوائية تصفرُ فيها رياحُ الظلماتِ ينتظرونَ عرباتِ الموت التي تقلُّ موتى آخرين. تعالي وغنّي لهم الأغنيةَ التي كنت تغنّينها لأبي كي يعودَ من مشْيه الطويل في الليل”.
بين الموتى أنفسهم تنتشر في هذا النشيد تواصلات وإضاءات متبادلة، وعن تواضع ونُبل ينفي المتكلّم فيه عن نفسه صفة التفرّد أو الانفراد بالعبء في هذا اللّيل المديد: “أخطو في هذا الليل/ التيه كمن يتوقعُ أيَّ شيء من قلب الإنسان/ صدري مفعم ٌبخضرةٍ دائمة / لا بدّ أن هناك من يخطو مثلي في أمكنةٍ أخرى/ لست وحيداً في هذا الليل الجامع/…/ أخطو إلى هذا الليل وفي يدي دليل الحائرين/ أسمعُ من يقولُ: تفضَّل اجلس معنا تحت هذه النجمة الضّالة/ لِمَ العجلة/ الحيُّ يؤنس الميت…”
ويراهن الشاعر على الهشاشة. لا فقط لأنّ المقام يلزم بذلك، بل حتّى عندما يتذكّر سيرة بطله حيّاً، لا يسرد منها سوى ما هو إنسانيّ بصورة آسرة: “كنت يوماً هذه الورقةَ التي تسقطُ في بطءٍ،/ الغصن الصامد في وجه الريح،/ الوردة التي أنكرت نفسها عندما قدمَّها الخريف/ إلى ملهمته الصهباء،/ النّمرَ الذي يظنُّ أنَّه حرٌّ فيما هو في حديقة مسيَّجة…” هذه الهشاشة ينبغي الاحتراس من اعتبارها ضعفاً أو رخاوة، ففيها إنّما تتلخّص قوّة إنسانية مشعّة، ومن خلالها ينغرس الكائن في قلب الوجود: “كنتُ يوماً/…/ ذلك الرّجل المائل الذي يعتمد عليه الليل/ عندما ينفضُّ عنه أعوانُ السهر،/ الصبَّارة العزلاء التي تحرس حقلاً مهجوراً/ لسببٍ آخر سوى أن تكون استعارةً…” هي غفليّة للمتكلّم تجرّده من إسفاف هواة البطولة أو مدّعي النبوّة في كلّ عصر، وتخلع عليه ملامح كلّ واحدٍ والجميع: “لم أكن أرتدي كفناً. كنت في ثياب العمل. في جيوبي أقلام رصاص، مفكّات، مفاتيح. هل كنت حداداً، نجاراً، ميكانيكياً، أم شاعراً؟”
الفرد والكيان الجمعي
على أنّها غفليّة أليمة. فإذا كان التنطّح للبطولة أو للتنبؤ مرفوضاً في منطق الحداثة الذي يبقى أمجد وفيّاً له، فما لا يمكن التخلّي عنه بالمقابل هو الحقّ في المواطنة والانخراط في كيان جمعيّ يضمن للفرد انتماءً وأواصر ومكانة، مهما يكن من بساطتها، في عيش مشترك حقيقيّ. في دراسة عن الإطار الاجتماعيّ والتاريخيّ الذي تنخطّ فيه “أوديسة” هوميروس، يشير المؤرّخ الفرنسيّ فرانسوا هارتوغ إلى أنّ كلّ رعب أوليس أثناء الإبحار الطويل كان ينبع من خوفه من أن يموت في المنفى، أي خارج إيثاكه. خوفه من ألّا تكون له شاهدة قبر تدلّ عليه وتشير إلى انتمائه إلى موطنٍ ولسان. والحال أنّ هذه الغفليّة التي نراها في نشيد أمجد ناصر مفروضة على الفرد في وطنه نفسه، أو في الجحيم التي صار إليها وطنه، بفعل طاغية وزبانيته، غفليّة الاندثار في المقابر الجماعيّة والموت في الحفَر والمغاور المهجورة، هي ما يتسيّد اللّوحة ويعرب عن فظاعة قيامة كهذه: “لا أضرحة. / لا شواهدَ. / لا أسماء. / موتى يدفعونَ موتى ظانّينَ أنَّ هناك ملجأ من هذه القيامة الغادرةِ التي فاجأتهم في ثياب النوّم”.
إنّ هذا النشيد، المكتمل الرّوعة والمحكم البناء، يصلنا وتصل معه أخبار عن كون أمجد يواجه اليوم آلاماً شديدة. لا أكثر إيلاماً من أن تعرف أنّ من يواجهها هو شاعر بمثل نبل أمجد وحسّه الإخائيّ الرفيع. في عمله محرّراً للصفحات الثقافية، وفي صداقاته المديدة كما في أريحيّته الشعريّة، يظّل أمجد مثالاً لانفتاح ثقافيّ عميق، وصاحب مبادرات سخيّة. على الدوام بقي يعضد الأدباء الآخرين من مختلف الأعمار والخيارات الثقافيّة. شاعر بلا ترفّع ولا تبجّح، بلا أنانيّة ولا تهويل نرجسيّ، سواء في كتاباته أو في سيرته.
أمام هذا كلّه، نظلّ، نحن أصدقاءه الخلّص، وأحسبنا كثاراً، لا بل لا نُحصى، نحتفظ بالأمل الصادق في أن ينتصر أمجد على الداء ويعود إلينا بضحكته المجلجلة وتبحّره الفريد في الكلام كما في الكتابة. كم من داء عضال اندحر أمام قوّة الروح! من قبلُ انتصر فنّانون وأدباء أفذاذ مثل أمجد على أمراض جعلوها تمرّ كسحابة صيف وتتحوّل إلى ذكرى مريرة عابرة. وما يعجز عنه أحذق الأطبّاء قد لا تعجز عن تحقيقه نفسٌ مكتنزة بمعناها الإنسانيّ الرفيع وحياة ملأى بأيادٍ بيضاء.