اليوم كما الأمس. قبل الحرب الباردة وأثناءها وبعدها كان ولا يزال من المؤكد دائماً ومن دون مبالغة أن رواية «دكتور جيفاغو» للكاتب السوفياتي بوريس باسترناك، واحدة من أكبر روايات القرن العشرين، بل يمكننا أن نقول أنها من قلة من أعمال أدبية سُمّيت «انشقاقية» واستُخدمت على نطاق واسع في المعارك الأيديولوجية من دون أن ترمى جانباً بعد انقضاء الحرب الباردة حين «لم تعد ثمة حاجة» إلى ذلك النوع من «الأسلحة» الناعمة في حروب المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي. اليوم، بعد أن بات ذلك كله جزءاً من تاريخ يبدو للبعض مرعباً وللبعض الآخر مضحكاً، يمكننا أن نقرأ مثلاً كتاب إريك هوبسباوم الرائع «عصر التطرفات» لنذهل أمام ما كانت عليه صراعات الحرب الباردة تلك. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو عودة ما إلى رواية باسترناك الكبيرة التي تخطت الأزمنة والصراعات، متواكبة مع ذلك الفيلم الكبير بالعنوان ذاته الذي اقتبسه عن الرواية المخرج الإنكليزي دافيد لين، ليبقى إلى أبد الآبدين فيلماً كبيراً، مغرقاً كالرواية في رومانطيقيته، بخاصة من خلال حكاية الحب التي أبدع تمثيلها في الفيلم نجمنا العربي العالمي عمر الشريف – في واحد من أجمل الأدوار التي لعبها طوال مراحله الفنية المتنوعة، والفاتنة جولي كريستي التي لا تزال تعلن إلى اليوم أن تمثيلها في «دكتور جيفاغو» كان أعظم «تجربة مررت بها في حياتي الفنية».
> من ناحية ثانية، يمكننا اليوم أن نتصوّر كم أن رفض بوريس باسترناك لنيل جائزة نوبل للآداب – التي أُعطيت له تحديداً عن هذه الرواية، ولكن ليس، كما رأت السلطات السوفياتية يومذاك، لدواع جمالية إبداعية، بل لأسباب سياسية خالصة – كان يعتبر في موسكو في الأقل موقفاً وطنياً شجاعاً، ارتبط بواحدة من القضايا الأدبية الأكثر إثارة، طوال القرن العشرين. غير أن هذا كله لا يمنع أن وراء القضية والرواية، كان هناك ذلك الصراع الهائل الذي طبع الحرب الباردة أواسط ذلك القرن، وكان قطباه، السي. آي. إي. من ناحية، والكي. جي. بي. من ناحية أخرى، أي جهاز الاستخبارات الأميركي في مقابل جهاز المخابرات السوفياتي.
> والحقيقة أن هذا البعد «الخفي» الذي يكمن في خلفية صدور «دكتور جيفاغو» في العالم الغربي، كان معروفاً منذ زمن بعيد.. لكن الأمر كان لا يزال في حاجة إلى ربط شامل وإلى توثيق ليسلط عليه مزيداً من الأضواء. الاضواء التي تقول أن المسألة كلها لم تكن بريئة براءة نظرات الحب المتبادلة بين الدكتور جيفاغو نفسه وبين فاتنته لارا. والمعروف أن في الرواية جانبين أساسيين، تمثل حكاية الحب الرائع أحدهما، أما الجانب الآخر، والذي يشكل الخلفية كلها وأساس حكايتنا هنا، إنما هو صورة الثورة الروسية كما قدمها بوريس باسترناك في الرواية. ونعرف أنها صورة بالغة السلبية، ولكن قوية الإقناع أيضاً، إلى درجة أن كثراً يرون أن هذه الرواية قدمت المساهمة الأساسية في «تشويه» صورة الدولة الاشتراكية الكبرى، بعد زهو الحرب العالمية الثانية. ثم بخاصة بعد موت ستالين وسعي الحزب الشيوعي السوفياتي وسلطات موسكو إلى تحميله الآثام والمساوئ كلها. لقد أتت الرواية لتقول: لا المسألة لم تبدأ مع ستالين، بل مع الثورة البولشفية ذاتها. من هنا تبدأ حكايتنا.
> حكايتنا هذه نظمها ووثقها، إذاً، كتاب صدر قبل سنوات في موسكو من تأليف الباحث إيفان تولستوي (وهو لا علاقة له طبعاً بالكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي)، عنوانه «دكتور جيفاغو بين السي. آي. إي والكي. جي. بي». ولقد أتى هذا الكتاب بعد سنوات من تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء تسلط أجهزة الاستخبارات على مقدرات الحياة الأدبية، ليروي الحكاية بادئاً بالتعريف ببوريس باسترناك بكونه ناقداً وشاعراً وروائياً كان معروفاً في الاتحاد السوفياتي منذ عشرينات القرن الفائت. ويقول الكتاب أن باسترناك، ما إن رحل ستالين عن عالمنا عام 1953، حتى أرسل إلى مجلة «نوفي مير» رواية ضخمة عنوانها «دكتور جيفاغو» (وهو لن يكتب غيرها) على أمل نشرها. كانت الرواية تروي، كما نعرف حكاية الثورة الروسية من خلال حياة طبيب مثقف ومغامراته هو جيفاغو نفسه، وربما يمكن اعتباره في شكل من الأشكال الأنا مع الآخر لباسترناك ما يعني أن في الرواية ما يمكن اعتباره، ولو مواربة، سيرة ذاتية للكاتب نفسه، غير أن هذا أمر لن نتوقف عنده هنا. يومذاك، من المعروف أن المجلة، ومن خلفها السلطات «الأدبية» المشرفة عليها، لم ترفض نشر الرواية… لكنها وبكل بساطة… لم تنشرها! واستبد القلق بباسترناك. بعد ذلك بثلاث سنوات، كان عضو في الحزب الشيوعي الإيطالي المعروف بمشاكسته على الحزب – القائد، يزور موسكو، فعرف بوجود الرواية وتمكن من الحصول على نسخة من مخطوطتها، فأنبأ بالأمر صديقه الناشر الشاب فلترينيلي الذي كان شيوعياً مشاكساً لا يتوقف عن البحث عن نصوص مثيرة لينشرها. على الفور، أدرك الناشر أن بين يديه كنزاً أدبياً – وربما سياسياً – ثميناً. من هنا، حين قررت «نوفي مير» في نهاية الأمر عدم نشر الرواية، اتصل فلترينيلي بباسترناك مقترحاً عليه نشرها في إيطاليا.
> وبالفعل، نشرت هناك بالروسية على رغم كل الضغوطات التي مارسها الحزب الشيوعي الإيطالي على الناشر الذي كان عضواً فيه. ويبدو أن الحزب الشيوعي الإيطالي كان يعرف عن الحكاية ما ظل كثر يجهلونه: أي العون الذي قدمته منظمة أدبية عالمية تابعة للسي. آي. إي. وممولة منها لنشر الرواية. وكانت هذه المنظمة، التي روى كتاب بالإنكليزية عنوانه «من يدفع أجر الزمار» (صدر مترجماً إلى العربية قبل سنوات عن المجلس القومي للثقافة)، حكايتها، مؤسسة أنشأتها الاستخبارات الأميركية لرفد الحرب الباردة بعناصر ثقافية، وأصدرت كتباً كثيرة كما أصدرت مجلات ثقافية في شتى اللغات ومنها مجلة «حوار» اللبنانية، تحت إدارة ما سُمّي يومذاك المنظمة العالمية لحرية الثقافة، الممولة من أجهزة الاستخبارات الأميركية، في الأقل بحسب ما يمكننا أن نستنتج من قراءتنا الكتاب المشار إليه قبل سطور. والحقيقة أن الناشر فلترينيلي ما كان يمكنه أن ينشر رواية بالروسية في إيطاليا في ذلك الحين، من دون ذلك العون.
> وعلى هذا النحو، وكما يؤكد كتاب إيفان تولستوي بالوثائق، تحولت القضية الأدبية إلى قضية سياسية حتى – وإن كان صاحب الرواية نفسه كان أو المفاجئين بذلك ثم أول رافضيه لاحقاً كما يؤكد تولستوي نفسه – بل إن منظمة حرية الثقافة التي نتحدث عنها وكانت في رأي تولستوي في الأقل، تابعة كلياً للسي. آي. إي. تولت تمويل ترجمة الرواية على الفور إلى أكثر من أربعين لغة… ثم، وهنا اتخذت القضية منحى آخر تماماً، أوعزت السي. آي. إي. بترشيح باسترناك للحصول على جائزة نوبل الأدبية عام 1958، ضد ألبرتو مورافيا، ما فتح الباب واسعاً أمام الصحافة الإيطالية لفضح الحكاية كلها في ذلك الحين. لكن ما كتبته تلك الصحافة كان أقرب إلى التخمين حينذاك، حيث لم تكن ثمة وثائق متوافرة حول الموضوع. أما اليوم، وبعد صدور كتاب إيفان تولستوي، فإن الحكاية باتت مختلفة… إلى درجة أن صحيفة «آ. بي. سي» الإسبانية رجحت أن من عمل لحصول باسترناك على نوبل، كان داغ همرشولد، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السويدي الذي كان في الوقت ذاته، حسب الصحيفة، عملاً للسي. آي. إي. وعضواً في لجنة نوبل. ما يعني بحسب الكاتب أن الأمم المتحدة ذاتها كانت متواطئة في ذلك كله!
> المهم أن بوريس باسترناك فاز يومذاك بالجائزة العالمية، لكنه… رفض تسلمها؟ فهل كان الرفض من تلقائه؟ أبداً… كان – بالتأكيد – تحت ضغط الكي. جي بي. التي كانت تجابه المساعي الاستخباراتية الأميركية لحظة بلحظة. فإذا كانت السي. آي. إي. قد طبعت ألوف النسخ من الرواية لتوزعها مجاناً في معرض بروكسيل عام 1958 تحت سمع الوفد السوفياتي وبصره؛ وإذا كان العالم قد سمع بعد ذلك بأيام أن باسترناك فاز بجائزة نوبل؛ فإن العالم ذاته دهش حين علم على الفور، بعد ذلك أن باسترناك لن يكتفي بعدم التوجه إلى استوكهولم للحصول على الجائزة… بل سيرفضها أيضاً.
> بقي أن نذكر أن باسترناك مات بعد ذلك بفترة قصيرة… لكن الرواية عاشت من بعده، كما عاشت على شكل فيلم سينمائي خالد.. ولا يزال والرواية يعتبران عملين كبيرين حتى بعد زوال الكي. جي. بي. والحرب الباردة كلها.
جريدة الحياة