إن النسبية ثقافة ونمط فكري كامل يلقي بظلاله على نظرتنا إلى الأشياء وكيفية بناء كل تصوراتنا للآخر والذات والقيم والحياة بشكل عام. لذلك؛ فالكثير مما نعانيه من مشكلات وما نرتكبه من أخطاء وما نقع فيه من تشويش وتوتر مجانيين إنما كل هذا هو نتيجة هيمنة الطابع الدوغمائي الراديكالي في التفكير والحكم على الناس والأشياء على حد السواء.
يبدو لي أن التنسيب هو الواقع، وهو الحقيقة التي لا تزال غائبة عن ثقافتنا. لم يتغلغل مبدأ التنسيب في البنية الفكرية الثقافية العربية كما يجب.
قد يقودنا الانفعال إلى نفي كل شيء تماماً كما تحملنا الحماسة الزائدة إلى تجميل كل شيء ودون مبرر.
هذه الطريقة في مقاربة الأمور مُخلة بالحقيقة في كلتا الحالتين: النفي أو التجميل. بل إنهما نتاج عقلية، لا تُجيد النظر إلا بعين واحدة لا غير. وبالتالي، فإنه يمكن القول إن هذا النمط من التفكير تنتفي عنه الموضوعية التي تشير إلى المنجز في الوقت الذي لا تغفل عن ذكر الناقص والمنشود.
هذه الديباجة أردناها مقدمة للحديث عن طبيعة الخطاب المُهيمن في غالبية الدول العربيّة اليوم، التي تعرف مخاضاً في المجالين الثقافي والسياسي، حيث لا نستطيع أن ننكر رغم مظاهر التأزم وجود مظاهر حراك فعلي وسريع الوتيرة.
فاللافت للانتباه أن الغالب على الخطاب لدى الرأي العام العربي التصريح بوجود حالة من الفقر الشامل، إضافة إلى أنه لا شيء تحقق يمكن من خلاله قياس تطور الأوضاع على امتداد العقود. إنه خطاب يرسم الأوضاع في صورة صحارٍ قاحلة على الصعد كافة، ولا يعترف بأي حراك تحقق لا قبل الثورات ولا بعدها.
وإلى جانب هذا الخطاب الخاص بالمرحلة الراهنة نسجل حضوراً قوياً لخطاب يمجد المكاسب، ويرى أن المنجز هائل، وأن كل الفضل في بعض المكتسبات يعود إلى ما بدأ يتراكم بعد انطلاق ما سمي بالربيع العربي.
وفي الحقيقة نرى أن هذين الخطابين نتاج الثقافة نفسها ولا يختلفان عن بعضهما بعضاً؛ إذ يُعبران عن الرؤية ذاتها في النظر وفي التقويم، وهي رؤية الانفعال لا الرؤية الموضوعية.
بالنسبة إلى الخطاب الثاني الخاص بتقويم الأوضاع لما قبل الحراك والثورات وعمليات الإصلاح التي عرفتها بعض البلدان، نعتقد أنه ينطوي على شيء من التناقض باعتبار أن الحراك في أي مجال من مجالات الفعل الاجتماعي وبوصفه فعلاً مشرقاً يشترط إرادة وقراراً استثنائيين، من الصعب أن يكون نتاج لا شيء!
صحيح أن التخلف كان عميقاً، والمواطنة كانت ضعيفة والحريات قليلة، لكن في مقابل ذلك تحتم علينا الموضوعية الإقرار بأن ما حققته تجارب التنمية رغم إخفاقاتها وما شابها من ثغرات، لا نستطيع تجاهله. وما تمّ إنجازه في مجالات التعليم والصحة والثقافة ونمط الحياة، هو الذي ألهم الشعوب العربية إرادة التغيير وطاقته. وبالتالي، فإن الواقع الاجتماعي العام في بلداننا ليس صحاري جدباء تماماً، كما أنه ليس حدائق!
ورغم كل الإخفاقات وكل السلبيات وكل مظاهر التخلف والفساد، فإنه من المبالغة القول إننا كنا في مرحلة الصفر، وإننا دون مكاسب فعلت فعلها فينا، ورفعتنا إلى مستوى أكثر دفاعاً عن حقوقنا الإنسانية.
أما الخطاب الأول المتعلق بمرحلة ما قبل الحراك وبعده والذي تشوبه نبرة تشاؤمية نظن أن النبرة تفتقر إلى ذبذبات الموضوعية ومن الحيف تركيز كل الاهتمام على أرقام البطالة التي لم تتغير، بل إنها تفاقمت أكثر؛ ذلك إن المشكلات الاقتصادية معلومة الأسباب، وهي نتيجة ما عرفته فترة ما بعد الثورة من ارتباكات كثيرة أثرت سلباً في العجلة الاقتصادية، خصوصاً في تونس ومصر دون أن نتناول البلدان التي تمثل اليوم بؤر توتر حقيقية.
غير أن أهم ثمرات الحراك الأخير في الفضاء العربي عموماً هو دخول الشعوب العربية بتفاوت نسبي طور الحداثة السياسية من خلال المشاركة في الحياة السياسية والتأثير فيها والتدخل في رسم ملامحها واتجاهاتها. وهي مشاركة تعني الدخول الفعلي والحقيقي في الحداثة السياسية، وذلك من بوابة الممارسة لا الشعارات البراقة فقط. وهكذا، فإن المشاركة في الحياة السياسية، تعد في حد ذاتها ثمرة مهمة من ثمار الحراك العربي في السنوات الأخيرة، أي أن مرحلة ما بعد الحراك ليست فارغة من حيث الإنجاز كما يحلو للبعض أن يردد، دون أن ننسى أن الدخول في مرحلة الحداثة السياسية وبداية التمرن على الممارسة الديمقراطية، هما بوابتان للأمل بالغد الأفضل اقتصادياً واجتماعياً. فكلّما تدرجنا في استحقاقات الديمقراطية، سيطرنا أكثر على الفساد وثقافة الفكر الواحد، الأمر الذي سيفتح الطريق واسعة أمام تحقق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.
إن بلداننا ليست صحاري، وهي أيضا ليست حدائق، لكن كل المؤشرات تقول إنه بالإرادة والعمل والنظرة الموضوعية ومعانقة القيم الإنسانية الإيجابية ستتحول أوطاننا إلى حدائق غنّاء… ولو بعد عناء شديد.
الشرق الاوسط