السؤال غير ساخر: هل تتوافر في موسيقانا العربية عناصر تؤهلها لأن تكون جديرة بالتحليل؟ هذا أهون من الدعابة التشكيكية: هل موسيقانا موسيقى؟
أكثر من 95% من الموسيقى العربية أغانٍ، فهل تكفي هذه القوقعة لتأسيس فلسفة للفن؟ يصبح الحديث ضرباً من الهزل، إذا توهّمنا أن موسيقانا خليقة بأن تقوم عليها نظريات فكرية. تغدو القضية أشدّ تعقيداً، إذا بحثنا عمّن سيقومون مقام الفلاسفة الذين شادوا صرحاً لفلسفة الموسيقى: روسو، هيجل، شوبنهاور، نيتشة، فاجنر، كروتشه، ليختنتريت، جورج سانتيانا… ثمّة مجالات لا يمكننا تصوّر طرحها في العالم العربي، كربط الموسيقى بعلم نفس الموسيقى، بالعلوم العصبية، بعلم النفس التربوي، بفلسفة أشكال الموسيقى، بالتحليل الفلسفي لماهيّة الموسيقى، بالآثار البيولوجية والكيميائية والفيزيائية في الدماغ، بالتحليل الفلسفيّ لتاريخ الموسيقى العربية…هذه الميادين جميعاً وغيرها رفوف فارغة في مكتبتنا العربية.
نستخلص أن موسيقانا لم ترتق إلى مستوى الفكر، لم تُطرح كفن يبنى على فكر وفلسفة، فيصير بدوره منتجاً لهما. نستعير من المؤلف الموسيقي الفرنسي هكتور برليوز قوله عن السيمفونيتين الأولى والثانية لبيتهوفن: «إنهما تنقصهما الأفكار». من بين ألوف الأغاني العربية مشرقاً ومغرباً، نعثر بصعوبة على نماذج أقل من القليلة، فيها ثراء أفكار وتحظى بمسار نموّ يلتقي فيه الإبداع بالتخطيط الواعي. من أبدعها أغنية لم تنل ما هي أهل له، لمحمد عبدالوهاب: «من غير ليه». هذه الرائعة حريّة بالقول إنها تأليف موسيقي، الباقي في أغلبيته الغالبة تلحين، أي اختيار المقام والإيقاع المناسبين للتعبير عن مضامين الكلمات. هذا في الموسيقى الرفيعة أضعف الإيمان. بسخاء كبير: الجيّد أكثره احتراف لا إبداع. يعني: لم نعثر لك على أخطاء وعيوب.
التلحين في الأغنية العربية قائم على الغاية التطريبية. من زاوية تحليلية، يرى القلم أن ذلك يرتبط بنظام شكل القصيدة العربية الكلاسيكية، الذي يعتمد على استقلالية البيت من حيث المضمون. لهذا نجد واو العطف تتكرّر كثيراً في بدايات الأبيات. لأن الأبيات لا تشكل في الأكثرية نموّاً وتطوّراً لموضوع واحد، فتبدو الأبيات كالآجرّ بينه الأسمنت.
تلحينيّاً، يتغيّر المعنى فيتغيّر المقام أو الإيقاع أو كلاهما معاً، من دون نموّ عام. يقيناً، للميراث الموسيقي دور حال دون تجربة الموسيقى المحضة المستقلة عن الكلمات. لم يكن في إمكان العقل الموسيقي العربي أن يتخيّل إمكان انبثاق الأفكار والإبداع من الموسيقى نفسها. ثمّة كابوس ثقيل الوطأة يمنع استقلال الموسيقى عن سلطة الكلمات التي تفكّر عن الموسيقى. ذلك جعل موسيقانا خادمة للكلمة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: حين تفكّر الموسيقى، تولد فلسفة الفن.
جريدة الخليج