ما إن انتشر خبر رحيل الروائي السوري حنا مينة حتى عمد كتّاب عرب إلى نشر الوصية التي كان كتبها العام 2008 على الفايسبوك وفي مواقع أخرى، مكتوبة بخط يده. وعلّق قراء كثر على الوصية التي نادراً ما كتب روائيون وشعراء ما يشبهها في جرأتها وصراحتها. وزع مينة هذه الوصية قبل عشر سنوات ونشرها في الصحافة مجاهراً بها، على خلاف الوصايا التي تظل سرية عادة حتى يرحل أصحابها. هل كان يخشى الرحيل المفاجئ حينذاك بعدما تخطى الثمانين؟
ترك حنا مينة وصيته كما هي، ولم يضف إليها حرفاً ولا كلمة، على رغم اندلاع الثورة السورية التي حوّلها النظام والأصوليون حرباً شرسة دمرت وأحرقت وهجرت الملايين من المواطنين وشردتهم في البحار وعلى أرصفة العالم وفي المخيمات. كان يقال دوماً إن حنا مينة كان خلال الأعوام الأخيرة في حال من الغيبوبة والمرض، غائباً عما يجري من حوله. وهذا صحيح على الأرجح، فالشائعات عن موته راجت مراراً، حتى أن إحدى المجلات خصصت له صفحات من الرثاء ثم اعتذرت من قرائها. وما بدا لافتاً بُعيد رحيله هو إصرار كثر من مواطنيه على تسميته او تكنيته بأسماء روائيين عالميين: غوركي سورية وهمنغواي سورية وتولستوي وماركيز وحتى زوربا… مع أن الروائي كان يردد خلال حياته: لست سوى حنا مينة. وكان مستغرباً أن يطرح بعض الكتّاب سؤالاً عن رأي حنا مينة في الثورة وأي موقف كان سيعلن لو قدّر له أن يعيش هذه الثورة ضد النظام الديكتاتوري. ومعروف أن حنا مينة كان شيوعياً وناضل ودخل السجن قبل ثورة البعث، لكنه عمل في وزارة الثقافة السورية وكان على علاقة متينة مع وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار التي عينها بشار الأسد قبل الثورة نائبة له في بادرة دونكيشوتية بعثية. ولعل ما لم أفهمه يوماً هو مشاركة صاحب «الياطر» الوزيرة البعثية في تأليف كتب مشتركة لم أسع يوماً إلى قراءتها، على خلاف بعض روايات مينة. وهذه الكتب التي حملت اسم مينة والعطار كانت أصلاً محط تندر لدى الكثيرين، وبعضهم قراء أوفياء لكاتبهم.
وعودةً إلى وصيته بعد رحيله، تبدو هذه الوصية التي لم يدعها حزب البعث «المنتصر» تتحقق، فريدة حقاً وجريئة وقلّما يُقدِم على كتابة ما يماثلها الأدباء الذين يؤثرون إبقاء الأمور الشخصية في الظل. أعرب حنا مينة في وصيته عن رغبته في ألا يُحتفى به ميتاً وألا يبكيه أحد ولا يحزن عليه أحد وألا تقام له حفلة تأبين. وأصر على جنازة بسيطة جداً مثل حياته، يحمل نعشه فيها أربعة أشخاص «غرباء» من دائرة دفن الموتى، ثم يهيلون التراب على جثمانه وينفضون أيديهم من بعد وكأن أمراً لم يحصل .هذا ما وعد به حنا مينة نفسه بعيد وفاته وكأنه يريد أن يموت بهدوء بعيداً من صخب الإعلام والضجيج الذي يرافق موت الأدباء الكبار، وفي منأى عن حفلات التأبين والتعزية و «الفولكلور» الرسمي. لكنّ رموز البعث «المنتصر» حضروا الجنازة في اللاذقية وعلى رأسهم نجاح العطار ووزيرا الإعلام والثقافة، علاوة على الشخصيات الرسمية، وألقوا كلمات تأبين بعثية رغماً عن وصية الراحل. ولئن كان من حق الكنيسة الأورثوذكسية أن تحيي جنازة ابنها «الضال» الذي اختار الشيوعية سبيل نضال، فاحتفال البعث بهذه الجنازة لم يكن إلا من قبيل بحث النظام عن أي ذريعة «حضارية» لترسيخ شرعيته التي فقدها والتي باتت موسومة بطابع إيراني- روسي.
لكن الوصية التي كانت ضرباً من التواضع الذي يلجأ إليه الكبار الذين يدركون موقعهم، بدت مجرد أمنية في وجدان مينة، فهي سرعان ما أصبحت حبراً على ورق بعيد الوفاة وفي الجنازة الاحتفالية. وأياً كانت غاية هذا الروائي الرائد والمؤسس في إعلان مثل هذه «الوصية» قبل رحيله، وأياً كان حافزها حينذاك، فهي تمثل حالاً من الجرأة في مواجهة الموت جهاراً وبعينين مفتوحتين، وفي تخيل ما سيحيط به من أمور أو وقائع. هذا الكاتب الذي لم يهب البحر وعواصفه حين عمل بحاراً في مقتبل العمر، يبدو أنه لم يهب الموت ولا أنواءه في خريف عمره. لم يخف حنا مينا «العجوز» سأمه ‘تكاليف’ الحياة كما عبر الشاعر القديم، ولم تعد لديه أي «رغبة في ازدياد» مثلما قال المعري المتشائم، ولم يبق قادراً على الكتابة، مع أنه حاول مراراً ولم ينجح. كان أصبح زاهداً في الحياة بعدما عمّر طويلاً بحسب قوله، ودب فيه الحنين إلى «البحر» الذي لا نهاية له، وإلى السماء التي تضيئها «المصابيح الزرق». ألقى حنا مينة عام 2008 نظرة من»نافذة» الثمانين إلى ماضيه، وهاله كم أن الحياة وهم والشهرة وهم، واكتشف أنه مثلما جاء وحيداً إلى هذا العالم سيرحل وحيداً. كتب يقول في «الوصية»: «ليس لي أهل، لأن أهلي جميعاً لم يعرفوا من أنا في حياتي». ليس من السهل أن يتخيل روائي لحظة رحيله وجنازته …هذا ما اعتاد أن يفعله إزاء شخصياته. أما أن يجعل نفسه شخصية مشرفة على الموت، فهذا ضرب من العبث الذي لا يخلو من الجمال.
لم يشأ حنا مينة أن يكتب «وصيته» نصاً أدبياً مثلما فعل الشاعر الألماني ريلكه عندما كتب «الوصية» عام 1920 ولم تنشر إلا عام 1974، وفيها يعبر عن خشيته من الموت الذي لم يكن ليتيح له إذا حلّ أن يكمل ديوانه الرائع «مراثي دوينو». لكن الموت أمهله ليكمل هذا الديوان وسواه أيضاً. وقد تذكر «وصية» مينة بـ «وصية» فيكتور هيغو وكان سماها «هي ذي وصيتي» وكتبها في شيخوخته وما زالت تقرأ بمتعة وفيها وزع إرثه على ابنته المريضة نفسياً وحفيديه وبعض المؤسسات الإنسانية. أمين الريحاني كتب وصية أيضاً عام 1931 وسماها «وصيتي» وحملها مواقف له في الفكر والأدب والسياسة… أدباء عرب آخرون كتبوا وصياتهم، بعضهم نشرها وبعضهم شاءها شخصية أو عائلية. أما أجمل «وصية» يمكن أن تقرأ كعمل روائي، فهي «الوصية الإسبانية» التي كتبها الروائي البريطاني المجري الأصل أرتور كوستلر عام 1938، وفيها ينقل معاناته في السجن الإسباني أيام حكم فرنكو وكيف كان يواجه الموت يوماً تلو يوم.
إلا أن ما كان طريفاً في «وصية» حنا مينة أنها جاءت بعد بضعة أيام على صدور روايته الأخيرة «عاهرة ونصف مجنون» وهي الثلاثون ضمن أعماله. وبدت الرواية كأنها تنقض «الوصية» التي تلتها كما لو كانت هي «الوصية» التي لا تخلو من شغفه الدائم الذي هو الفن الروائي . لكنّ الرواية هذه، التي كان كتبها قبل سنوات من «الوصية»، لم تكن في مرتبة أعماله المعروفة.
جريدة الحياة