من يعرف المواطن الفرنسي إميل رينو؟ أشكّ أن أحداً قد سمع به. إن اسمه وارد في سجلات الأبطال من مجندي الحرب العالمية الثانية. وهناك عبارة شهيرة تلي أسماء أولئك الضحايا: «مات في سبيل فرنسا». وهي محفورة على آلاف التماثيل والجداريات وشواهد المقابر العسكرية والساحات العامة، وحتى في مفارق الطرق. كل الأماكن كانت صالحة لأن ينفّذ فيها المحتلون النازيون أحكام الإعدام برجال المقاومة الفرنسية ونسائها.
هذه الأيام ينشغل بعض المواقع والصحف بالبحث عن صورة لإميل رينو. ونشر باحث يدعى كريستوف روكسيل، يشتغل في التوثيق العسكري، نداء بهذا الخصوص إلى عموم الشعب. وجاء في التفاصيل أن رينو كان مجند احتياط في البحرية الفرنسية وشارك في إنزال «النورماندي»، شمال غربي فرنسا. كان واحداً من كتيبة قوامها 177 مجنداً تحت قيادة الكومندان فيليب كييفر، أسر الألمان 21 فرداً منهم وأعدموهم بالرصاص على ساحل بلدة وسترهام. هناك يرقد جثمانه في منطقة تنتج أطيب أنواع التفاح.
تستعد فرنسا لإقامة احتفال كبير، الشهر المقبل، بمناسبة مرور 75 عاماً على الإنزال الشهير الذي كانت مقاطعة النورماندي مسرحاً له. والهدف من الاحتفال إحياء ذكرى الآلاف من الجنود الأميركيين والبريطانيين والكنديين والفرنسيين الذين فقدوا حياتهم في تلك المعركة التي حسمت احتلال فرنسا. ومن المقرر أن يحضر كبار هذا العالم المناسبة، وبينهم الرئيس دونالد ترمب. فهل يجوز أن تغيب عن الاحتفال ملامح بطل من أبطاله؟
طوال السنوات الخمس الماضية لم يهدأ الباحث روكسيل. قام وقعد وتمكن من تجميع صور الكتيبة كلها. قرأ في ملفات الجيش أن البحار المجند ورفاقه لقوا مصرعهم أول أيام الإنزال. وسجّل الباحث سيرة كل منهم إلا واحداً بقي اسما دون صورة. دار واتصل واستفسر واستطاع الوصول إلى حفيدة أحد أشقائه. لكنها لم تكن تملك صورة عمها البطل الذي مات في سبيل فرنسا.
من أجل جندي واحد فقد حياته قبل ثلاثة أرباع القرن، ذهب روكسيل إلى عشرات القرى وسأل وتقصّى. جمع المعلومات عن سير الضحايا وعاد بأكثر من 20 ألف صورة. تصفّح ملفات الخدمة القديمة وسجلات وزارة الدفاع فلم يجد سوى نصوص دون صور. زار الأبناء والأحفاد حيثما كانوا واستعرض معهم الألبومات العائلية. بحث في الصناديق الراقدة تحت غبار السنين في مخازن البيوت. ذهب إلى دائرة استصدار الهويات وخاب مسعاه. لقد أتلفوا السجلات التي تقادم عليها الزمن.
نشر الباحث العنيد أن رينو استدعي للخدمة العسكرية سنة 1939. مع بلوغه الثامنة عشرة. كان له ستة أشقاء وشقيقات تزوجوا وتطلقوا ولم يخلفوا ذرية تذكر. نشب نزاع بين والده وأعمامه وعماته بسبب ممتلكات لم تُدرج في الميراث. تسبب الأمر في قطيعة عائلية. وهو أمر قد يفسّر عدم احتفاظ الأعمام بصور للشقيق الذي اختلفوا معه، ولا لأبنائه. ولم يفقد روكسيل الأمل. فقد تكون هناك صورة لرينو في الوثائق العسكرية البريطانية، باعتباره خدم في قوات فرنسا الحرة خلال الحرب. وقد يقرأ أحدهم نداءه، على الضفة الثانية من المانش، ويساعده في بحثه. إنه ما زال ينتظر أن يتلقى الصورة المطلوبة قبل حلول موعد الاحتفال بذكرى الإنزال الأشهر في تاريخ الحروب. كما أنه يراهن على معجزات التواصل الإلكتروني التي تفعل فعلها وتأتيك بالأخبار، والصور، من لم تُزوّد.
كل هذا من أجل صورة جندي فرنسي واحد. وأرضنا الطيبة تنام على رفات ما لا يُعدّ ويحصى من الضحايا المجهولين والمقابر الجماعية والأبطال الذين اغتيلوا غدراً والشباب الذي لم يتمتع بزهرة عمره. متى تُكتب حكاياتهم؟ ليتها قضية صورة فحسب.
جريدة الشرق الاوسط