بصورةٍ من الصور، يمكن أن نطلق على إدوارد سعيد أنه أمريكي، ليس فقط لأنه يحمل جنسية الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما لأنه عاش الجزء الأكبر من حياته فيها.
فيها درس وتعّلم، وفيها أصبح أستاذاً جامعياً، وفيها أيضاً ألّفَ كتبه.
أكثر من ذلك، رغم الخصومة التي تكنها له الأوساط الأكاديمية والسياسية والإعلامية الموالية ل «إسرائيل» في أمريكا؛ بسبب مواقفه من قضية شعبه الفلسطيني، وفضحه الصلب للسياسات الصهيونية، لا يمكن تجاهل حقيقة أنه يُعد علماً مهماً في الفكر والثقافة الأمريكيين؛ بل يعود الفضل إليه في إقامة جسر بين الثقافتين، الفرانكفونية والأمريكية، الحديثيتين؛ كونه أول من عرّف الأمريكيين بجديد الفكر والفلسفة في فرنسا.
مع ذلك فإن ما كتبه إدوارد سعيد عن الأدب والثقافة في أمريكا يعد قليلاً جداً، بالقياس لحجم إنتاجه الفكري والنقدي، ما حمل صديقه طارق علي، الكاتب والناشط التقدمي البريطاني من أصول باكستانية، أن يسأله عن السبب في ذلك، في الحوار المطول الذي أجراه معه، وقد وافق سعيد على هذه الملاحظة، لكن مع بعض التوضيحات، منها إشارته إلى أن الجزء الأخير من كتابه «الثقافة والإمبريالية» مكرس كلياً للحديث عن أمريكا.
السبب، حسب إدوارد سعيد، يعود إلى أنه لا ينظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أنها محل إقامته، وإنما على اعتبار أنها قوة عالمية؛ لذا فإن ما يثير اهتمامه ليس الواقع الأمريكي اليومي الذي يعيشه ويتفاعل معه، وإنما الصور المعروضة للولايات المتحدة في العالم بأسره، سواء كان ذلك في أوروبا أو في الشرق الأوسط، وفي دول أخرى تنتمي إلى العالم المستعمر قديماً.
أيكون السبب في ذلك هو أن إدوارد سعيد، على طول إقامته في أمريكا لم يشعر بالانتماء إليها؟.
المدهش في الأمر، ونحن نتلمس الطريق للإجابة على هذا السؤال، قول سعيد، في الحوار مع طارق علي، أنه لا يستطيع العيش في مكانٍ آخر غير أمريكا؛ لكن هذا القول ليس سوى جزء من الحقيقة، وليس الحقيقة كاملة، فهو يضيف أنه اختار مدينة نيويورك بالذات، من بين بقية المدن الأمريكية؛ لأنها تعد، في رأيه، مدينة المنفيين، فهي حسب تعبيره: «مدينة منزوعة الرحمة».
في وصف إدوارد سعيد في نيويورك، قال محمود درويش: «نيويورك/ إدوارد يصحو على/ كسَل الفجر/ يعزف لحناً لموتسارت/ يركض في ملعب التِنِس الجامعيِّ/ يفكِّر في رحلة الفكر عبر الحدود وفوق الحواجز/ يقرأ نيويورك تايمز/ يكتب تعليقَهُ المتوتِّر/ يلعن مستشرقاً/ يُرْشِدُ الجنرالَ إلى نقطة الضعف في قلب شرقيّةٍ».
أما سعيد نفسه فقال إن كونه لا يملك فيها الشقة التي يسكنها، ظلَّ يشعر بأنه عابر، ف «نيويورك تضمن لي هذه الحال؛ لأنها مدينة الألف هوية، وعندما نكون فيها لا يمكننا الشعور بأننا في بيتنا».
جريدة الخليج