أمتعتني خلال الأيام الماضية، مطالعة المجموعة القصصية للكاتب الروسي ايفان بونين، «الدروب الظليلة»، وهي مجموعة ملهمة وشائقة، لا بل إن أجواء وأحداث بعض قصصها آسرة، وقد تأتي مناسبة قريبة للحديث عن هذا.
لفت نظري أن الكتاب الذي حوى مجموعة القصص هذه، تضمن في نهايته شروحاً موجزة عن كل قصة من القصص التي بين دفّتيه، وبعض هذه الشروح بمثابة حكاية عن القصة المعنية، بمعنى أنها تشرح الظروف التي أحاطت بكتابة القصة، وربما المكان الذي جرت فيه أحداثها، أو حتى المكان الذي كتب فيه الكاتب قصته تلك، ناهيك طبعاً عن الفترة الزمنية التي كتبها فيها، فنكون بذلك إزاء ما يمكن أن نطلق عليه سيرة النص.
بعض هذه «الحكايات» عن قصص المجموعة، جاءت على لسان المؤلف نفسه، وبعضها وضعها معدّو الكتاب للنشر، لكن ما فيها من معلومات مأخوذ من أقوال الكاتب نفسه، أو من دراسات وضعت حول أدبه.
لوهلة؛ خلتُ أن تلك الشروح – الحكايات، أو بعضها للدقة، بمثابة مصدّات بوجه ما سندعوه هنا بـ«التلصص» على حياة الكاتب، بمعنى التفتيش داخل النص القصصي عن جوانب من حياته، ومعرفة إلى أي مدى تنطبق شخوص القصص على شخصيات بعينها مرَّت على الكاتب في حياته، أو جمعته بها علاقة.
مثلاً في القصة الموسومة بـ «القوقاز»، نقرأ نقلاً عن مذكرات ايفان بونين نفسه، ما يفيد أنه كتبها استعادة لحادثة وقعت له قبل أربعين عاماً من كتابة الرواية، حين اتفق أن سافر من موسكو بالقطار إلى مدينة نائية صحبة امرأة، وهي واقعة تضمنتها القصة فعلاً، لكنه يؤكد أن كل ما ورد فيها باستثناء الذكريات عن محطة القطار هو من بنات الخيال.
وعن قصة أخرى، هي «قصة شعرية» نقرأ في الشروحات وعلى لسان الكاتب، ما يشي بالشكوى أو التبرم من ميلٍ لدى القراء وربما لدى النقاد أيضاً، في البحث عن حياة الكاتب نفسه في قصصه، مؤكداً أن فكرة القصة خطرت في باله فجأة، وكل أحداثها وشخوصها متخيلة، حيث كتب يقول بعد أن أتمَّ تبييض القصة للمرة الأخيرة قبل دفعها للطبع: «وا أسفاه. لا أحد يصدق أنني دائماً، تقريباً، أتخيل كل شيء، كل شيء، كل شيء !».
ليس إيفان بونين هو الكاتب الوحيد، الذي وجد نفسه مضطراً للتأكيد على أن أحداث وشخوص سرده متخيلة، سواء أكان الأدباء، في هذا، قد صدقوا وإن كذبوا، أو أنهم كذبوا وإن صدقوا.
جريدة الخليج