ظل المثقفون العرب طيلة عقود أسرى ما أنجزه مثقفو الخمسينات والستينات من أعمال أدبية ثرية لما فيها من صدق وعمق ووطنية، حتى توقعنا أن كل ما أردنا أن نسمعه قد قالوه، وتوج عصرهم بجائزة نوبل للآداب حصة الزعيم نجيب محفوظ. لكن ذلك لم يكن حقيقيّا في بعده الإبداعي، وكأن الأمة لم تنجب بعد جيلا من الكتاب والمبدعين الكبار في مختلف المناحي الإبداعية، الذين أنجزوا في العقود التالية أعمالا مذهلة.
فهناك أسماء لا تعد أو تحصى من المبدعين العرب الذين كتبوا أعمالا رائعة في السبعينات والثمانينات أبرزهم عبدالرحمن منيف، جبرا إبراهيم جبرا، ومحمد خضير، ومحمد شكري وحنا مينا وسواهم الكثير.
وإذا كانت الأعمال الفنية نتاج تحولات المجتمعات الكبرى وكيف تجد صورها في ذائقة المبدع وتحفز قدراته، فإن المجتمعات العربية لم تشهد انهيارات وبناءات جديدة كالتي عاشتها في حروب الثمانينات والتسعينات حتى آخرها الحرب على بلد مثل العراق، لأن منظومة القيم كلها تعرضت لتحديات من أصعب التحديات في الوجود والعدم.
فرضت مظاهر التشظي التي تجسّدت بملايين المهاجرين والنازحين والمشردين إلى أن وصلنا أن نعيش عصر “السبي الجديد” الذي تعرضت له أقوام في ظهرانينا، في حروب قذرة وحشية هي هولوكوست جديد، متجسد وتحت الكاميرات وموثق وضحايا يعيشون بيننا ليحكوا قصصا لم يسمعها تاريخ بلدان العالم المعاصر، بهذه الهمجية والبربرية الصاعقة.
كلها وجدت صدى في أرواح كتابنا ورسامينا ومسرحيينا وسينمائيينا الجدد وشكلت تحدّيا من نوع آخر لم تألفه مجتمعات أخرى بدا يطغى على نتاجات ثقافتنا الحالية ويضيف إليها عبئا إنسانيا مذهلا تجسد في أعمال أقل ما يقال عنها إنها تخطت البعد المحلي في الحكاية إلى البعد الإنساني في الروي المتفاعل مع العالم الجديد كون النتاج خرج من محيطه العربي ليلقى صداه العالمي.
من خلال وجود المئات من أدبائنا ورسامينا وشعرائنا هناك، في المنافي الإجبارية أو الاختيارية يجسّرون هوة آلامهم وعذاباتهم الإنسانية مع الداخل المنتهك والمدمر والغارق في الفساد والسراق، ومواطنيهم المعذبين الذين يكابدون العيش ويبحثون عن أدنى الحريات.
جيل سيعبّر عن مأساة شعوبهم بلوحات وأعمال أدبية، ستقص للعالم حجم ونوع المآسي التي تعيشها أوطانهم الأصلية.
هم نتاج حقب الدكتاتوريات، والحروب وصراع السلطة والمعارضات الكاذبة التي ألَّبت العالم واستقدمت الجيوش الغازية وحكمت بلا مشاريع حقيقية، حيث نادت بالحرية والعدالة وجاءت بلدانها لتسرق كل شيء، فهي اكتسبت مهارات كيف تأكل الأخضر واليابس ولا تعرف كيف تؤكل الآخرين من ضحايا الداخل.
أبدلوا الدكتاتوريات العسكرية بسلطة الثيوقراطية فأنتجت تجارب مشوهة أغرقت المجتمعات في الوهم والفساد وحطمت الدولة. ها نحن نقرأ ونشاهد نتاجات استثنائية في ثقافتنا.
صحيفة العرب