استقبلوها مثل عرائس. تراكض الصغار حولها وتلمسها الكبار وكأنهم يتبركون بها. ثم بأناة واحتراس، دفعوا بها نحو الماء. كان الريفيون يراقبون المشهد وبعضهم يشارك فيه. والأولاد في عيد والنساء يتمتمن بالتعاويذ. ومن يملك هاتفاً سجل الحدث بالكاميرا. فلما انزلقت الزوارق الجديدة على صفحة البحيرة وسطعت تحت الشمس، تبادل الجميع التبريكات. هذه مشاحيف السومريين تعود إلى أهوار العراق. والفضل يعود لدأب رشاد سليم. باحث فنان سليل عائلة لم تنجب سوى فنانين. والمشحوف نوع من الزوارق الرفيعة ذات النهايات المرفوعة، يشبه الجندول الذي رآه الشاعر المصري علي محمود طه في مدينة البندقية وكتب فيه قصيدة لحنّها وغناها عبد الوهاب. غير أن مشاحيفنا سبقت جنادلهم بآلاف السنين.
ولد رشاد في الخرطوم. كان والده الأديب الرسام نزار سليم، دبلوماسياً هناك. ليس في الأسرة من لم يكن ممسوساً بالفن. الجد محمد سليم عبد القادر كان ضابطاً في الجيش العثماني ورساماً نال ميداليات وتكريمات لبراعته في رسم سرايات الحكومة. وبفضل تلك السمعة نجا من الإعدام رمياً بالرصاص على أيدي الأتراك، بتهمة التعاون مع الضباط العراقيين أثناء الثورة العربية الكبرى. أما الجدة مليكة عبد الله فكانت طرّازة ماهرة، أنجبت ثلاثة رسامين ورسامة، أشهرهم جواد سليم.
ظهر اسم الشاب رشاد في الأخبار، أواسط سبعينات القرن الماضي، عندما تطوع للمشاركة في الرحلة التي نظمها الرحالة النرويجي الدكتور ثور هايردال على متن سفينة من القصب والبردي، شبيهة بتلك التي عرفها سكان بلاد الرافدين. وتألف طاقم الرحلة من أحد عشر مستكشفاً وخبيراً غربياً، بينهم عراقي واحد هو رشاد. سمّى هايردال سفينته «دجلة» لأنه كان مؤمناً أن البشرية عرفت طرق الملاحة والتجارة انطلاقاً من ذلك النهر. وقد وصلت «دجلة» إلى بلدان الخليج واستقبلت بحفاوة ومهرجانات، ثم دارت في بحر العرب والمحيط الهندي نحو خليج عدن على أمل بلوغ البحر الأحمر. وبسبب الحرب المشتعلة في اليمن صدرت الأوامر بحظر مرورها. ولم يكن ذلك أول تطلّع إنساني يتحطم على صخرة السياسة، ولا الأخير.
سافر الشاب المغامر للدراسة في بريطانيا وأقام في بلدان كثيرة. سبع سنوات في المغرب وست في اليمن. كان يتتبع الفنون الفطرية والصناعات التقليدية ويشعر بأهمية توريثها للأجيال. أم أننا لا نبرع سوى في توريث الحكم؟ لم يفارقه شغف ارتياد المياه بسفائن خطرت في بال الأسلاف. ورسم على الورق مشروعاً لإعادة تخيّل سفينة نوح. لا قيمة لحلم لا ينزل ليجرّب الخطو على أرض الواقع. عاد إلى العراق وزار مناطق مختلفة يسأل ويلاحظ ويبحث عن أفق. وقبل ربيعين جاءته الفرصة المنشودة. حصل على منحة لإقامة ورشة لصناعة المشاحيف. سيبنيها كما كان الأجداد يبنونها، من القصب والصفصاف وجريد النخيل. بحث عن «الأسطوات» المتقاعدين وجاء بالشباب ليتعلموا الصنعة. فالمشحوف الذي لا يزيد عرضه على ذراعين هو «تاكسي الأهوار». والمشاحيف الأكبر، أي الطرّادات، وسيلة التنقل المثلى في تلك المسطحات المائية التي ضمّتها «اليونيسكو» إلى قائمة التراث الإنساني. زوارق رأيناها مرسومة على جداريات وألواح وأختام تعود لخمسة آلاف سنة. لكن صناعتها كادت تندثر في السنوات الخمسين الأخيرة.
قبل أيام جاء خبر سعيد من البلد الحزين. ففيما يشبه العرس الشعبي، نزل عدد من طرادات الورشة إلى أهوار الجبايش. كبر الرحالة الشاب لكنه ما زال يأمل بأن ينقل طرادة سومرية تقليدية إلى لندن لكي تسرح على صفحة نهر التيمز. ستكون تحية من بلد عريق إلى شعب استضاف مئات الآلاف من المهاجرين العراقيين.
ولد رشاد في الخرطوم. كان والده الأديب الرسام نزار سليم، دبلوماسياً هناك. ليس في الأسرة من لم يكن ممسوساً بالفن. الجد محمد سليم عبد القادر كان ضابطاً في الجيش العثماني ورساماً نال ميداليات وتكريمات لبراعته في رسم سرايات الحكومة. وبفضل تلك السمعة نجا من الإعدام رمياً بالرصاص على أيدي الأتراك، بتهمة التعاون مع الضباط العراقيين أثناء الثورة العربية الكبرى. أما الجدة مليكة عبد الله فكانت طرّازة ماهرة، أنجبت ثلاثة رسامين ورسامة، أشهرهم جواد سليم.
ظهر اسم الشاب رشاد في الأخبار، أواسط سبعينات القرن الماضي، عندما تطوع للمشاركة في الرحلة التي نظمها الرحالة النرويجي الدكتور ثور هايردال على متن سفينة من القصب والبردي، شبيهة بتلك التي عرفها سكان بلاد الرافدين. وتألف طاقم الرحلة من أحد عشر مستكشفاً وخبيراً غربياً، بينهم عراقي واحد هو رشاد. سمّى هايردال سفينته «دجلة» لأنه كان مؤمناً أن البشرية عرفت طرق الملاحة والتجارة انطلاقاً من ذلك النهر. وقد وصلت «دجلة» إلى بلدان الخليج واستقبلت بحفاوة ومهرجانات، ثم دارت في بحر العرب والمحيط الهندي نحو خليج عدن على أمل بلوغ البحر الأحمر. وبسبب الحرب المشتعلة في اليمن صدرت الأوامر بحظر مرورها. ولم يكن ذلك أول تطلّع إنساني يتحطم على صخرة السياسة، ولا الأخير.
سافر الشاب المغامر للدراسة في بريطانيا وأقام في بلدان كثيرة. سبع سنوات في المغرب وست في اليمن. كان يتتبع الفنون الفطرية والصناعات التقليدية ويشعر بأهمية توريثها للأجيال. أم أننا لا نبرع سوى في توريث الحكم؟ لم يفارقه شغف ارتياد المياه بسفائن خطرت في بال الأسلاف. ورسم على الورق مشروعاً لإعادة تخيّل سفينة نوح. لا قيمة لحلم لا ينزل ليجرّب الخطو على أرض الواقع. عاد إلى العراق وزار مناطق مختلفة يسأل ويلاحظ ويبحث عن أفق. وقبل ربيعين جاءته الفرصة المنشودة. حصل على منحة لإقامة ورشة لصناعة المشاحيف. سيبنيها كما كان الأجداد يبنونها، من القصب والصفصاف وجريد النخيل. بحث عن «الأسطوات» المتقاعدين وجاء بالشباب ليتعلموا الصنعة. فالمشحوف الذي لا يزيد عرضه على ذراعين هو «تاكسي الأهوار». والمشاحيف الأكبر، أي الطرّادات، وسيلة التنقل المثلى في تلك المسطحات المائية التي ضمّتها «اليونيسكو» إلى قائمة التراث الإنساني. زوارق رأيناها مرسومة على جداريات وألواح وأختام تعود لخمسة آلاف سنة. لكن صناعتها كادت تندثر في السنوات الخمسين الأخيرة.
قبل أيام جاء خبر سعيد من البلد الحزين. ففيما يشبه العرس الشعبي، نزل عدد من طرادات الورشة إلى أهوار الجبايش. كبر الرحالة الشاب لكنه ما زال يأمل بأن ينقل طرادة سومرية تقليدية إلى لندن لكي تسرح على صفحة نهر التيمز. ستكون تحية من بلد عريق إلى شعب استضاف مئات الآلاف من المهاجرين العراقيين.
جريدة الشرق الاوسط