برز الشاعر الجزائري أحمد عبدالكريم في ثمانينات القرن الماضي، تميز بصوت متفرد ولافت في كتابة القصيدة الحديثة وسرعان ما انتقل إلى كتابة الرواية، لكنه بقي وفيا للشعر ومناديا بانفتاح الأجناس الأدبية على بعضها البعض. “العرب” التقته في حوار حول مسيرته الأدبية وقضايا ثقافية جزائرية أخرى بقيت مجهولة نسبيا للقراء العرب.
يستعيد الشاعر والروائي أحمد عبدالكريم مساره في دروب الحياة والكتابة قائلا “غالبا ما أتلفت كثيرا جهة الماضي، وأتحسس ما بقي مني ومن أحلامي التي تنازلت عن كثير منها، أجلت كثيرا منها إلى وقت لاحق. أنا ككل شعراء الأطلال كائن من حنين، أستعيد ماضي وأعيش عالة على ذاكرتي الحية، أستعين على حاضري باستعادة طفولتي وذكرياتي الشقية بفرح”.
جيل الثمانينات
كتب عبدالكريم الشعر في مفصل تاريخي مهم في واقع الجزائر التي خرجت من ليل الاستعمار ثم مراحل البناء ثم في زمن الرعب والإرهاب أين برزت العديد من الأسماء وهو من ضمنها وعرفت بشعراء الهامش.
يقول الشاعر “أنا كنت واحدا من شعراء جيل الثمانينات، هذا الجيل الذي نذر نفسه لتحديث الشعر الجزائري والخروج به من دائرة التقريرية وبؤس اللغة والمعنى، بفعل توظيفه للترويج للمقولات الأيديولوجية التي كانت ترهن فترة السبعينات. جيل الثمانينات ذهب بعيدا في التأسيس لكتابة نص جزائري مختلف، مؤثث باللغة الداخلية وبالرؤى الاستثنائية، وأنتج نصوصا لافتة أغنت المدونة الشعرية العربية، لكن للأسف فإن مشروع هذا الجيل لم يعرف الاكتمال، وانتهى شعراؤه إلى مصائر ومآلات صادمة: الاغتيال، الموت، السكتة الشعرية، والهجرة، بفعل السياقات الوجودية والسياسية الضاغطة للعشرية الدامية التي عاشتها الجزائر”.
ضمن كوكبة جيل الثمانينات كان هناك صوت الهامش، متمثلا في أصوات قادمة من الأقاصي تعبر عن هواجس أخرى، ولغة مختلفة، تمكنت من اختراق حاجز المركزية الثقافية الذي كانت تستأثر به عاصمة الجزائر.
يعرف أحمد عبدالكريم بنزوع نصوصه الشعرية نحو رحاب التصوف ضمن كوكبة من شعراء جيله، وهو يقر بأن ذلك لم يكن اختيارا، ولا يستطيع أن يوضح كيف حدث ذلك. كل ما يستطيع قوله إنه نشأ في قرية صحراوية (الهامل) معروفة بزاويتها التي كانت تتبع الطريقة الصوفية الخلوتية الرحمانية، وكانت مزارا يفد إليها الأتباع والمريدون في كل فصول السنة من كل مكان، كما كانت مكتبتها غنية بالمتون والمخطوطات والكتب العتيقة.
في هذه الأجواء والفضاءات الروحانية تشكّل وعيه، واستطاع أن يلتقط تفاصيل تلك الطقوس والمشهديات التي تحولت إلى جزء صميم في ما كتب، بما اختزنه من تلك المفردات والمشاغل التي لم يستطع تجاوز سطوتها على وجدانه وعلى مخيلته، لتأتي في ما بعد لحظة الوعي بأهمية أن يكون الشاعر وفيا لمكانه وراهنه. نوّع عبدالكريم في ما يكتبه، من الشعر إلى الدراسة إلى الراوية وتطرق في كل هذه إلى مواضيع هامة خاصة في كتابه عن اللون في القرآن والشعر.
يقول الشاعر “أشرت سابقا إلى أن مشروع جيل الثمانينات الذي كنت واحدا من شعرائه، انتهى إلى الصمت ودخل مأزق الذهول أمام اللحظة الجزائرية الصعبة، ربما هذا ما دفعني إلى أن أختار ما هو أقل ضررا، وأجرّب أشكالا أخرى من التعبير بدل الاستسلام للصمت المطلق كما فعل غيري. لذلك انتقلت إلى الرواية ثم الكتابة الصحافية مع ‘هوامش’ والتأمل والدراسة، ثم النص المسرحي مع المونتاج الشعري في ‘هذا هو بيتي’ مع المخرج العراقي جواد الأسدي، لأنني لم أستطع أن أكبح في نفسي تلك الرغبة الجامحة في التعبير بأي شكل من الإشكال”.
ويضيف “صحيح هناك بعض النقلات تمليها سياقات وظروف معينة، لكن في العموم أنا من المؤمنين بمفهوم الكتابة بعيدا عن التقسيمات الأجناسية التقليدية التي يكاد الزمن يتجاوزها”.
الشاعر روائيا
بالعودة إلى كتاب “اللون في القرآن والشعر”. يقول عبدالكريم “كتاب اللون هو تجل لاهتماماتي بالنقد التشكيلي، حاولت فيه أن أتتبع أسئلة اللون في الثقافة العربية وقضية التفضيل اللوني عند العرب، حاولت أن أوضح أن اللون الأخضر هو أكثر الألوان إيجابية في الثقافة العربية من حيث معانيه بدلالة النص القرآني الذي أعطاه هذه القدسية، وهو معادل للأزرق عند المسيحيين بما يحيل عليه من خلود في الجنة الموعودة. حاولت أيضا أن أتتبع بالشواهد الحس اللوني عند بعض الشعراء العرب، على غرار أبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وعند المتنبي الذي كان مسكونا باللون الأسود”.
كتب عبدالكريم روايتين في مساره هما “عتبات المتاهة” و“كولاج”. وحول انتقاله من كثافة الشعر إلى سرد الرواية يقول “لا أعتقد أنه مدروس ومؤسس على تخطيط مسبق، حتى وإن تضمن جانبا من القصدية، من يكتب لا يفكر في ما يمكن أن تمنحه الكتابة إياه، وأعتقد أن فعل الكتابة منزه عن كل نفعية، إلا ما كان من المتعة التي تمنحها الكتابة”.
ويضيف “لا أعتقد أنني انتقلت انتقالا كليا أو أنني تخلصت كليا من روح الشاعر الذي يسكنني، لأن الانتقال ظل محكوما برؤية الشاعر، وجوهر الشعر كقيمة معنوية تستطيع أن توظفها في أي شكل تعبيري، هذا الانتقال لم يحدث إلا في بعض النواحي الشكلية التي يقتضيها فن السرد، قلما يستطيع الروائي أن ينتقل إلى الشعر، لكن الشاعر بإمكانه الترحال بين أجناس الكتابة لأنه يمتلك اللغة، التي غالبا ما تكون عامل إغناء للرواية وقيمة مضافة لها”.
الحراك والمثقفون
وبتطرقنا للحديث عن الواقع الثقافي في الجزائر، يقول عبدالكريم “يعيش الواقع الثقافي في الجزائر اختلالا ت كبيرة، لم تسمح له بإفراز إنتاج ثقافي حقيقي أو خلق فعل ثقافي أو مبادرات أو مشاريع ثقافية كفيلة بتحقيق تراكم ثقافي، أو تقاليد ثقافية مستمرة في الزمان والمكان”.
ويضيف “هناك غياب تام لأي سياسة ثقافية تقوم على استراتيجية ثقافية، الثقافة الريعية حوّلت جميع المشتغلين في حقل الثقافة إلى أثرياء جدد اغتنوا بفضل الأموال الطائلة التي ضختها الدولة في التظاهرات الكبرى دون أن تترك أثرا لها، مثل الجزائر عاصمة الثقافة العربية عامي 2007 و2015”.
وفي حديثه حول الحراك الأخير الذي هبّ في ربوع الجزائر يقول الشاعر “يجب أن أعترف دون أي ادعاء بأن لحظة الحراك كانت أكبر مني، ومن كل المثقفين، ولذلك واكبتها بعفوية المواطن البسيط الحالم بمستقبل أجمل للأجيال القادمة. في حالة الحراك الجزائري أعتقد أننا كنا أمام نوع جديد من الثورات على اعتبار أنه يرفض أي تبني أو قيادة سياسية أو معنوية تمثله، ويتمسك بسلميته التي تشكل قوته الناعمة”. ويرى أحمد عبدالكريم أن تعاطي النخبة المثقفة مع الحراك كان عاديا، ولم يختلف عن سائر فئات المجتمع، من خلال المشاركة في المسيرات وأخذ “السلفيات” لا أكثر.
صحيفة العرب