على مدى خمسين سنة، تبدّت في ردهات وأجنحة معرض القاهرة الدولي للكتاب، قضايا وهموم ومعارك اكتسبت أهميتها من تحديات زمنها. في عام (1969) عقدت دورته الأولى، حيث تقع الآن دار الأوبرا المصرية. في توقيتها وظروفها كانت تلك رسالة لا تخطئ بأهمية الدور الثقافي في حفز الهمة العامة لبلد، تعرض قبل أقل من عامين لهزيمة عسكرية فادحة.
كانت مصر تخوض حرب استنزاف ضارية، وطلاب الجامعات يدعون للتعبئة العامة لاستعادة الأرض المحتلة بقوة السلاح وتوسيع المشاركة السياسية، وينتقدون في الوقت نفسه، الأسباب التي أدت إلى الهزيمة.
النقد صلب مهمة المثقف. هذه حقيقة لا يصح المساجلة فيها. إذا تعطلت مهمة النقد فلا توجد ثقافة ولا مثقفون ولا قدرة على التصحيح والتصويب وتجديد الفكر والروح.
كانت مصر في حاجة ماسة إلى كل ما يساعدها على رفع منسوب الوعي العام بالتحديات التي تعترض مستقبلها ومصيرها. تردد على نطاق واسع وقتها شعار: «اعرف عدوك»، تكوين مجتمعه وتناقضاته الداخلية، ما يفكر فيه وكيف يخطط لمستقبله؟
لا مستقبل يتأسس على تجهيل، أو قمع وإقصاء لأي صوت مختلف.
هكذا اكتسب معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأولى أهميته من تأكيد دور الثقافة في المعركة.
كما أنه اكتسب أهمية إضافية من ضخ دماء جديدة بوقت قاسٍ في المشروع الثقافي لثورة «يوليو»، الذي كان يشرف عليه «ثروت عكاشة» أهم وزير ثقافة في التاريخ المصري المعاصر.
الصورة اختلفت في سنوات السبعينات، حيث تقوض ذلك المشروع، أغلقت المجلات الثقافية واحدة إثر أخرى، وأطفأت بالتدريج أنوار المسرح، ودخلت الدولة حرباً على المثقفين، الذين أطلق عليهم الرئيس الجديد «أنور السادات»: «الأفندية».
كان حريق «دار الأوبرا» التاريخية بميدان «العتبة» في (21) أكتوبر (1971)، الذي لم يكشف حتى الآن من ورائه، تلخيصاً مأساوياً لحرائق الثقافة في الحياة المصرية. بصورة أو أخرى أفلت معرض الكتاب من ذلك المصير المأساوي، وظل يلعب دوره في التعبير عما يجري في مجتمعه من تحولات، رغم جحافل الجهل الزاحفة.
اختلفت طبيعة أدوار المثقفين من نقد ثورة «يوليو» داخل الانتماء العام لتوجهاتها إلى المعارضة الكاملة للنظام الجديد، ومن الدعوة لتوسيع العدالة الاجتماعية إلى مناهضة الانفتاح الاقتصادي، وتغوّل من أطلق عليهم «القطط السمان» على مقدرات البلاد، ومن نداء «اعرف عدوك» إلى مقاومة التطبيع بعد توقيع المعاهدة المصرية -«الإسرائيلية» عام (1979).
أضفت سنوات السبعينات على معرض الكتاب، أجواء غضب وصدام وجدت ذروتها في التظاهرات والاحتجاجات على مشاركة «إسرائيل» في أعماله. اعتُقل مثقفون بتهمة مناهضة التطبيع والإساءة إلى دولة تجمعها بمصر معاهدة سلام.
تفاقمت المواجهات إلى حدود الاستهداف المسلح للجناح «الإسرائيلي»، من قبل تنظيم «ثورة مصر»، ما أفضى في النهاية إلى منع مشاركته نهائياً لأسباب سياسية وأمنية.
في الثمانينات والتسعينات، اكتسب المعرض طابع الندوات والمناظرات الفكرية والسياسية، التي شهدت إقبالاً كبيراً، غير أنها قلّصت خشية ما تثيره من قضايا مسكوت عنها، أو ما تؤدي إليه من تأثير لدى الجمهور العام.
باليقين، فإن المناظرة التي جرت وقائعها يوم (7) يناير (1992)، تحت عنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، أهم فاعلية فكرية في تاريخ معرض القاهرة الدولي خلال الخمسين سنة.
أفضت بعض تداعياتها إلى مقتل الدكتور «فرج فودة» في نفس العام بفتاوى استباحت دمه.
لم تكن المشكلة في المناظرة – بذاتها – بقدر ما في الأفكار المتشددة التي تعجز عن الحوار وتستبدل الكلام بالرصاص.
هناك فارق جوهري بين المثقف والموظف. الأول – يلتزم أفكاره وقيمه وإلاّ فإنه يخونها.. والثاني – يتبع ما يُملى عليه بغض النظر عن مضمونه.
بنص الالتزام الدستوري، فإن «حرية الفكر والرأي مكفولة.. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير».. و«حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك».
الحقوق المكفولة دستورياً، صلب ما يحتاجه المثقفون في خمسينية معرض الكتاب. الأسئلة الرئيسية التي تطرح نفسها الآن على هامش أعماله وفاعلياته: لماذا تراجعت القوة الناعمة المصرية بعدما كانت ملهمة ومؤثرة في محيطها؟ وهل يمكن استعادة قوتها وحضورها دون رد اعتبار الثقافة والمثقفين؟ أين البيئات الحاضنة للمواهب الجديدة في الآداب والفنون كما البحث العلمي؟.
التجريف يكاد أن يكون كاملاً في المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، حتى باتت أغلبها تسطيحاً دعائياً لا أثر له ولا قيمة.
بتعبير «بهاء طاهر» أهم أديب عربي الآن، وهو ينظر أمامه متألماً: «ليتني لم أتعلم القراءة والكتابة».
إذا نُحيّت الثقافة بالإقصاء والمصادرة والتجهيل، فلا أمل بأي مستقبل.
أهمية معارض الكتب فيما تتيحه من أوسع اطّلاع عام ممكن، على أحدث ما تنتجه المطابع من فكر في مختلف مجالات المعرفة، وما تثبته من قدرة على اكتشاف المستقبل ومواجهة تحدياته، وهذه كلها مسائل حرية.
جريدة الخليج