تمثل الحضارة الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الفعل الثقافي، باعتبارها محرك العقول، تسمو بالنفس والذوق، وهي مؤشر مهم على تقدم الدول، وبتطورها يزداد المجتمع تألقاً وانتعاشاً، وحتى وإن تلاشت حضارة ما، فإن فعلها الثقافي يبقى شاهداً على حضارتها وتراثها وآثارها… فحضارتنا العربية على سبيل المثال تضرب جذورها في أعماق التاريخ… كانت منارة للحضارات الأخرى، ومركزاً للعلم والثقافة، يَفِد إليها طالبو العلم من كل حدب وصوب لاكتساب المعرفة في شتى العلوم، بما أسهم في تعزيز التواصل الثقافي مع الحضارات الأخرى. ولكن ما خلفيات تلك الحضارة ووقائعها وأصولها؟ وهل كان لها سبق وفضل في تطوير مسيرة الإنسانية؟ وهل لها روابط بالهوية الثقافية الحالية لنا كعرب؟
تكمن الإجابة دونما أدنى شك في العديد من المراجع التاريخية والكتب التي ألفها مؤرخون كبار منصفون من أمثال الطبيب والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون مؤلف كتاب «حضارة العرب» والذي كتب فيه عن أمجاد العرب وفضل الحضارة العربية والإسلامية على المدنية الأوروبية.
ويكمن أحد أبرز ملامح تلك الحضارة فيما برعت فيه العرب قديماً من أساليب وتكتيكات لتنشيط الحركة التجارية عبر تنظيم المواسم الجماهيرية التي تشهد نشاطاً فنياً واقتصادياً وسياسياً. ومن بين أبرز تلك الأمثلة التاريخية؛ «سوق عكاظ» الذي تشير كتب التاريخ إلى نشأتها في عام 501 ميلادي، وهي السوق التي كان يجتمع فيها سادات العرب وشيوخهم ورموزهم الأدبية والرياضية من شعراء وفرسان من كل أرجاء جزيرة العرب، ومعها تنشط حركة التبادل التجاري وتُعقد الصفقات السياسية، وتلتقي الجموع مع المشاهير من الشعراء والفرسان الذين سبقتهم أبياتهم وبطولاتهم إلى القلوب والعقول. وتشهد ساحات السوق إقامة العروض التجارية وحلبات المنافسات الشعرية والفروسية وتُعقد اللقاءات الكبرى.
إن تلك الأمثلة التاريخية كانت وما زالت مصدر إلهام للفعاليات والاستعراضات الفنية، ومناسبات التبادل الثقافي، والتعرف على الآخر، وعرض ملامح التراث والعادات والتقاليد والفنون، وتنشيط الحركة السياحية، وإنشاء حوار وحراك مجتمعي يستعيد معه الجمهور فصولاً من التاريخ، وتترسخ في أذهان الأجيال الصاعدة عناصر الهوية العربية الأصيلة، ويدركون معها القيمة الحقيقية لخلفياتهم التاريخية ومدى أهمية المجتمع والمنطقة التي ينسبون إليها.
ومن الجليّ أن تلك الأسواق التاريخية لعبت دورها التاريخي في تأكيد أواصر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الممتدة بين القبائل العربية التي طالت جميع تفاصيل الحياة من عادات وتقاليد وأزياء وهندسة معمارية وفنون شعبية ولهجات محلية، وغيرها من عناصر التراث المادي والمعنوي التي تتشابه في أدق تفاصيلها إلى حد كبير.
ويبدو أن هذا الإدراك الواسع والنظرة العميقة إلى أهمية تلك الأنشطة المجتمعية تسري في الدماء المتوارثة لحكام وشعوب شبه الجزيرة العربية، لما لها من انعكاسات إيجابية على ترسيخ الشعور بالانتماء إلى المنطقة عموماً بعيداً عن الحدود السياسية، وتأكيداً للهوية الثقافية الأصيلة والمتميزة للعرب بين شعوب العالم. والمآثر والأمثلة على ذلك كثيرة هنا في دولة الإمارات، حيث لعبت القيادة السياسية التاريخية والحالية دورها المحوري في إحياء ملامح الهوية العربية الأصيلة، وكذلك الأمر لدى أشقائنا في المملكة العربية السعودية الذين لم تألُ قيادتهم، على مر التاريخ منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة، جهداً في استعادة الكثير من ملامح حضارة العرب سواء في المجال الثقافي أو العمراني أو من خلال الأنشطة المجتمعية مثل مهرجان «سوق عكاظ» الذي تقام هذا العام دورته الثالثة عشرة في موقعه التاريخي بمدينة الطائف طوال أيام شهر أغسطس (آب) الجاري، بمشاركة عربية واسعة، ومن بينها الجناح الكبير لدولة الإمارات.
وسيكون جناح دولة الإمارات كما عهده الجمهور في كل عام منصة لإقامة العديد من الفعاليات التراثية والثقافية والأنشطة التي تعكس تنوع وثراء العناصر الثقافية لدى المجتمع العربي الإماراتي وملامحه المشتركة مع أشقائه في شبه الجزيرة العربية، وفرصة للتعرف على الفروقات التي تُثري هذا الإرث الحضاري المشترك وتسهم في تنوعه.
إن هذه المنصات العربية ذات الأبعاد الثقافية وبعمقها التاريخي الراسخ تعد مناسبات مهمة لتأكيد هويتنا العربية المتميزة وفضاءات مشتركة لتعريف الأجيال الصاعدة وتنشيط ذاكرة أجيالنا الحالية بما لدينا من كنوز تراثية مشتركة مع أشقائنا في المملكة العربية السعودية. ويأتي حرصنا على الحضور الثقافي الإماراتي في مهرجان «سوق عكاظ» نابعاً من التزامنا تجاه حاضر ومستقبل أجيالنا الصاعدة وترسيخاً وتأكيداً لأواصر العلاقات المتجذرة بين شعبينا على المدى البعيد.
– وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة في دولة الإمارات
جريدة الشرق الاوسط