في وقت من الأوقات، كان الموسيقار محمد عبد الوهاب ينظم صالوناً ثقافياً في بيته، وكان ذلك في حي الزمالك الراقي الذي يطل على نيل القاهرة، وكان عبد الوهاب ينتقي الذين يدعوهم لحضور الصالون، وكان يُدقق في اختيار الضيوف. وكان الحوار بين الحاضرين من قمم الفكر والثقافة في البلد، يدور حول شتى الموضوعات والعناوين، وكان بيت الموسيقار الكبير يتحول مع كل انعقاد جديد للصالون، إلى ما يشبه «هايد بارك» مصرياً في الحي الراقي، ولم يكن هناك حرج في طرح أي فكرة للنقاش!
وذات مرة، طاب له ألا يستأثر مع ضيوفه، بما يقال داخل صالونه الخاص، وتساءل في حيرة: أين عامة الناس مما نقوله هنا؟ ولماذا يجدون أنفسهم محرومين من سماع مختلف الآراء ووجهات النظر التي تتردد بين جنبات الصالون؟ وكيف يمكن الانتقال بالصالون إليهم إذا كان من المتعذر نقلهم هُم إلى الصالون ليكونوا من بين الحاضرين؟ وإذا كان الهدف من وراء النقاش هدفاً عاماً، فلماذا يبقى حبيس المكان؟! وأسئلة أخرى كثيرة كانت كلها تبحث عن طريقة، تجعل من غذاء الفكر الذي ينبت في بيت الزمالك، محصولاً مُتاحاً من الثقافة بمعناها العام، أمام كل مصري، وبالضرورة أمام كل عربي!
وكانت هذه هي بداية التفكير في إصدار مجلة «الشموع»، التي رأس تحريرها أحمد بهاء الدين، وقد كان في مقدمة الذين يشاركون ويحرصون على دوام الحضور. وكانت الدكتورة لوتس عبد الكريم هي صاحبة امتياز إصدار المجلة، وكان عبد الوهاب قد اقترح أن يكون اسم المجلة هو «الصالون»، وكان يرى أن يكون لها هدف واحد، وأن يكون هذا الهدف هو نقل ما يدور في صالون البيت، بتفاصيله، إلى كافة الناس، ولكن بهاء الدين رأى أن كلمة «الصالون» كلمة فرنسية في الأصل، وأن كلمة «الشموع» ربما تكون أفضل وأقرب لعموم القراء. وقد كان، وصدرت المجلة برئاسة تحريره، وكانت تحمل هذا الشعار: «من أجل قيم الجمال في الأدب والفن والحياة»!
وسرعان ما تحولت «الشموع» إلى مؤسسة أكثر منها مجلة، وكانت ذات تمويل ذاتي، وكانت أقرب إلى أن تكون إحدى مؤسسات المجتمع المدني، منها إلى أي مؤسسة أخرى، وكان شعارها لا يفارق ذهن رئيس تحريرها، ولا صاحبة حق امتيازها. وكانت بمعارض الفن فيها، وبندواتها، وبلقاءات أصحاب القلم بين جدرانها، تسعى إلى أن تكون قيم الجمال في الميادين الثلاثة، هواء يتنفسه المصريون والعرب على السواء!
ولم تكن «الشموع» – المؤسسة لا المجلة – فريدة من نوعها في محيطها المصري أو العربي، فإلى جوارها كانت تقف مؤسسات مماثلة تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته، حتى ولو كانت وسائلها وأدواتها مختلفة. وكانت مؤسسة «منتدى أصيلة الثقافي الدولي»، واحدة بين مؤسسات مجتمع مدني عربي كبيرة، وكانت تقف في طليعة طابور طويل من مؤسسات كثيرة غير حكومية من هذا النوع! وكانت كل مؤسسة منها تمثل شعلة من النور في مكانها، ثم في محيطها، وكانت دوائر النور المنبعثة منها تتعدد، ويجري بعضها وراء بعض، إلى أن تصل إلى كل بلد عربي!
وكانت الميزة الكبرى في كل مؤسسة مجتمع مدني من نوع «أصيلة»، أنها ذاتية التمويل، وأنها إذا جاءها تمويل من خارجها، فمن متطوعين ومتبرعين محليين وعرب في العموم، يحبون أن يحملوا إلى نور المؤسسة نوراً مُضافاً، ويحرصون على أن يصل إلى كل بيت. وكانت «أصيلة» تمارس دورها على نطاق عربي شامل، منذ وقت مبكر، وكان متابعو نشاطها يجدونها عربية بامتياز، أكثر منها مغربية!
ولا بد أن المتطوعين والمتبرعين العرب، قد قرأوا عبارات حزينة لمحمد بن عيسى، أمين عام «منتدى أصيلة»، وهو يقول في ختام الدورة الأربعين، الجمعة الماضية، إن تنظيم الدورة الحادية والأربعين أمر غير مؤكد، وأن مستقبل المنتدى محاط بكثير من الغموض، وأن السبب ليس تضييقاً على المنتدى من أحد في المملكة المغربية لا سمح الله، فلقد كان الملك محمد السادس يشمل المنتدى دائماً برعاية سامية، وإنما السبب أن موارد المؤسسة تتراجع عاماً بعد عام، وتنحسر موسماً بعد موسم، حتى أصبح موسم العام المقبل في مهب الريح، ما لم يسارع القادرون بيننا إلى مد يد العون إليه، لتبقى شعلته مضيئة مغربياً وعربياً، فلا تنطفئ، ولا تغيب، ولا تتخلف عن موعدها الذي تبعث فيه النور فيما حولها!
لقد بدا لي بن عيسى، وهو يُطلق كلماته المنشورة على الصفحة الأولى من هذه الجريدة، صباح السبت، كمَنْ يتشبث بيد ابنه، الذي هو قطعة حية منه، ولا يريد أن يودعه، فضلاً عن أن يفارقه. وكيف يقع الوداع أو الفراق، وقد عاشا معاً أربعين سنة، كانت كل سنة منها تأخذ من سابقتها وتضيف إلى لاحقتها، إلى أن شبت «أصيلة» عن الطوق، وصارت – المنتدى والمدينة – مساحة عريضة من النور تضيء وتتلألأ في صيف كل عام على شاطئ الأطلسي، فتتردد ذبذباتها عبر أرض العرب، إلى أن تعانق نور صلالة في سلطنة عُمان!
من الجنادرية في السعودية، إلى المربد في العراق، إلى جرش في الأردن، إلى قرطاج في تونس، إلى أصيلة في أقصى الغرب، تُضاء شموع في موعد ثابت لا تتخلف عنه في كل الأحوال، وتظل تشكل معاً منارات في طريقنا نحن العرب، فكأنها فنارات في عرض البحر تهدي السفن، فلا تصطدم برأس جبل عائم، ولا تتخبط بين الأمواج، ولا تضل السبيل!
هل يليق بالقادرين بيننا، أن يقال ذات يوم، إن منتدى عريقاً دام انعقاده أربعين دورة، ثم انطفأ، أو كاد، بينما هُم واقفون يتطلعون من بعيد، ويتفرجون، ويفركون أعينهم غير مصدقين؟! وهل يجوز أن يتردد ذات يوم، أن الأمين العام للمؤسسة قد وقف، في حياء، يستحث الذين يملكون المال، ويستطيعون مد يد المساعدة، ويقدرون على الإنقاذ، ولكن أحداً منهم لم يمد يداً، ولم يبادر إلى العون، ولم يبادئ ببذل شيء مما يملك، في سبيل هدف عام لا بد أن يبقى حياً فلا يموت؟!
لا يليق، ولا يرضاه عربي قادر، لا على نفسه، ولا على سواه من القادرين! ومفهوم أن القدرة بمعناها المادي في هذا السياق، قد تكون قدرة لشخص، وقد تكون قدرة لجهة ترغب في ممارسة دور اجتماعي عام، وتحب أن تساهم بنصيب معلوم في تعزيز دور ثقافي أعم!
بقاء نور «أصيلة» مُشعاً أمانة في عنق كل عربي قادر، وفي عنق كل جهة عربية قادرة. وغيابه – لا قدر الله – غياب لقيم كثيرة بيننا!
جريدة الشرق الاوسط