للحمير أفضالها على البشر. ومع ذلك فقد دأبنا على احتقارها واتهمناها بالغباء. رحنا نصف أي شخص متخلف وعاجز بأنه حمار. وهي صفة أصبحت عالمية. تسمع الإنجليز يصفون إخفاقات القضاء والشرطة فيقولون «القانون حمار». وقد تساءلت مراراً لماذا خصصنا الحمار بالذات بتهمة الغباء؟ وانتهيت إلى هذا الجواب: الحمار غبي لأنه يخدمنا. فلو كان عنده ذرة من العقل لذهب وخدم حيواناً آخر غيرنا أكثر رقة منا.
بعد هذا الاستطراد الغبي الذي لا يوجد له أي مبرر، أمضي إلى هذا التراث الحماري فأقول إن هذا الحيوان يتردد في كثير من الأمثلة الشعبية. من ذلك قولنا «حمارة القاضي عزيزة». يضرب هذا المثل للإشارة إلى نفاق بني الإنسان وسوء قصدهم وتزلفهم لذوي السلطة والجاه والثروة. ونجد معناه وتطبيقاته من حكايته وأصله الذي يعود إلينا.
يعود هذا المثل كمعظم أمثالنا الشعبية إلى العهد العثماني، يوم كان القضاة والولاة يتسلطون على رقاب العالمين. يقال إن قاضياً من أولئك القضاة كان يستعمل حمارة رشيقة ونشيطة في تنقلاته. ويظهر أن حتى هذه الحمارة لم تسلم من سوء استعماله فماتت في عز شبابها. أمر القاضي خادمه بحمل جثتها إلى خارج المدينة وإلقائها هناك لتأكلها الوحوش والكواسر، وربما الفقراء من الناس أيضاً؟
ما أن سمع الجمهور بذلك حتى بعثوا وفداً إلى القاضي ليأخذ من خاطره ويواسيه على ما فقده. أطنب رئيس الوفد، في الإشارة إلى مزايا الفقيدة وحسن سيرتها وعظيم فضلها على الرعية من مسلمين ونصارى ويهود، وتوسل إلى القاضي أن يستجيب لطلبات الجمهور بتشييعها بما تستحقه من المراسم والاحترام والتبجيل. وهو ما كان. وكانت المناسبة الوحيدة التي استجاب فيها القاضي للجمهور.
حملوا الحمارة على عربة مدفع ومشوا وراءها في موكب امتد من مشارق الأرض إلى مغاربها. أغلقت كل الدكاكين في المدينة، وتعطلت المدارس، ولبس الناس الحداد وسبلوا السبيل حتى واروها التراب بين أعيان البلد ومشاهيره وكبار شعرائه.
وكلما سأل سائل عن الجنازة وسرّ كل هذا الاهتمام والاحترام، أجابوه وقالوا: «إنها حمارة القاضي وحمارة القاضي عزيزة»!
بعد سنة واحدة بالضبط من موت حمارة القاضي وذلك التشييع المهيب الذي لم يشهد له البلد مثيلاً، مات حضرة القاضي نفسه، ولم يخرج لدفنه غير بواب المحكمة ومأمور البلدية ونزاح المجاري. قاموا بدفنه في أحقر تربة في أقرب مقبرة. لكن أهل تلك المدينة ظلوا يرددون فيما بينهم: القاضي نفسه لا شيء، لكن «حمارة القاضي عزيزة». وسار القول مثلاً يردده الناس إلى يومنا هذا. ذهبت أيام الحمارة وحلت محلها أيام الطيارة، لكن نفاق البعض ظل يسود حياتنا.
بعد هذا الاستطراد الغبي الذي لا يوجد له أي مبرر، أمضي إلى هذا التراث الحماري فأقول إن هذا الحيوان يتردد في كثير من الأمثلة الشعبية. من ذلك قولنا «حمارة القاضي عزيزة». يضرب هذا المثل للإشارة إلى نفاق بني الإنسان وسوء قصدهم وتزلفهم لذوي السلطة والجاه والثروة. ونجد معناه وتطبيقاته من حكايته وأصله الذي يعود إلينا.
يعود هذا المثل كمعظم أمثالنا الشعبية إلى العهد العثماني، يوم كان القضاة والولاة يتسلطون على رقاب العالمين. يقال إن قاضياً من أولئك القضاة كان يستعمل حمارة رشيقة ونشيطة في تنقلاته. ويظهر أن حتى هذه الحمارة لم تسلم من سوء استعماله فماتت في عز شبابها. أمر القاضي خادمه بحمل جثتها إلى خارج المدينة وإلقائها هناك لتأكلها الوحوش والكواسر، وربما الفقراء من الناس أيضاً؟
ما أن سمع الجمهور بذلك حتى بعثوا وفداً إلى القاضي ليأخذ من خاطره ويواسيه على ما فقده. أطنب رئيس الوفد، في الإشارة إلى مزايا الفقيدة وحسن سيرتها وعظيم فضلها على الرعية من مسلمين ونصارى ويهود، وتوسل إلى القاضي أن يستجيب لطلبات الجمهور بتشييعها بما تستحقه من المراسم والاحترام والتبجيل. وهو ما كان. وكانت المناسبة الوحيدة التي استجاب فيها القاضي للجمهور.
حملوا الحمارة على عربة مدفع ومشوا وراءها في موكب امتد من مشارق الأرض إلى مغاربها. أغلقت كل الدكاكين في المدينة، وتعطلت المدارس، ولبس الناس الحداد وسبلوا السبيل حتى واروها التراب بين أعيان البلد ومشاهيره وكبار شعرائه.
وكلما سأل سائل عن الجنازة وسرّ كل هذا الاهتمام والاحترام، أجابوه وقالوا: «إنها حمارة القاضي وحمارة القاضي عزيزة»!
بعد سنة واحدة بالضبط من موت حمارة القاضي وذلك التشييع المهيب الذي لم يشهد له البلد مثيلاً، مات حضرة القاضي نفسه، ولم يخرج لدفنه غير بواب المحكمة ومأمور البلدية ونزاح المجاري. قاموا بدفنه في أحقر تربة في أقرب مقبرة. لكن أهل تلك المدينة ظلوا يرددون فيما بينهم: القاضي نفسه لا شيء، لكن «حمارة القاضي عزيزة». وسار القول مثلاً يردده الناس إلى يومنا هذا. ذهبت أيام الحمارة وحلت محلها أيام الطيارة، لكن نفاق البعض ظل يسود حياتنا.
جريدة الشرق الاوسط