في العام 1973 قام المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي برحلة بحرية لجزر اليونان، ففاجأه الإحساس بترابط المسافرين اليونانيين، فكانوا يتصرفون جميعاً وكأنهم أقرباء أو أصدقاء، رغم أنهم جميعاً لم يلتقوا من قبل، فهم وافدون إلى تلك الرحلة من مختلف مناطق اليونان.
وخلال العشاء الأخير على ظهر السفينة سأل سيدة يونانية تجلس قبالته عن سبب هذه الألفة بينهم، فلم تفكر للحظة وهي تجيبه: «نحن كلنا يونانيون وكلنا مسيحيون وأرثوذكس».
جواب هذه السيدة جعل الصليبي يلتفت إلى ما لم يكن قد فكّر فيه من قبل، وهو انسجام تركيبة المجتمع اليوناني، على نحو ما ذكر هو نفسه في محاضرة له بعنوان «الجماعة والدولة والأمة في المشرق العربي»، التي ترجمها إلى العربية محمود شريح، وأورد الصليبي هذه الواقعة في إطار المقارنة مع أحوال المجتمعات العربية المنقسمة مذهبياً وطائفياً، ما جعلها عاجزة عن بيان كيان وطني أو قومي يعتد به.
ربما كان من المتعين تسليط ضوء أكبر من قبل الكاتب على جانب مهم في الأمر، هو أن المجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا العربية، عرضة لانقسامات من نوع آخر حتى في حال تجانسها الديني أو الطائفي، فعلى سبيل المثال فإن بلدان المغرب العربي، أو غالبيتها على الأقل، تدين بالمذهب السني المالكي، وتكاد تكون خالية من التعدد الديني والمذهبي الذي نجده في مجتمعات المشرق، ومع ذلك فإن ما يجري اليوم في ليبيا يُظهر أن الانقسامات الجهوية والقبلية يمكن أن تلعب دوراً تفتيتياً لا يقل عن ذاك الناجم عن الانقسامات الطائفية أو المذهبية.
وحتى في حال تمّ احتواء الانقسام الجهوي في إطار دول وطنية، فإن الانقسامات الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء. بين من يملكون المال والسلطة ومن لا يملكونهما تفصح عن نفسها بالضرورة، حين تبلغ المجتمعات لحظة لا يعود بوسع الناس فيها مواصلة العيش على المنوال نفسه، فينتفضون بوجه الفساد والاستبداد. ولنا فيما جرى في السودان خير مثال، فالانتفاضة هناك ليست بين طوائف وملل، وإنما بين الشعب الفقير كاملاً من جهة والسلطة المستبدة من جهة أخرى.
ربما لمقاربة هذه الفكرة رأى كمال الصليبي أن اليونانيين طوّروا أحزاباً سياسية فاعلة بغرض الاستعاضة بها عن الخلافات الجماعية المحلية، وهو يرى في ذلك تجربة ناجحة بالقياس للتجارب العربية، فحتى لو نجحت بعض الأحزاب العربية في القفز على الانقسام الديني، فإنها لم تقو على ذلك فيما يخص الولاءات المناطقية والقبلية.
جريدة الخليج