في أواخر العام 1947 حين أعلنت الصحافة الفرنسية أن الكاتب ألبير كامو انجز كتابة مسرحية جديدة له بعنوان “حالة حصار” وأنها ستُقدّم العالم التالي على خشبة مسرح مارينيي في باريس، وأن بيار بيرتان سيلعب فيها دور الطاعون فيما تلعب مادلين رينو دور سكرتيرته، فهم القراء أن كاتبهم الشاب المفضّل سيقدم اقتباسا مسرحيا لروايته “الطاعون”. وكان الاعتقاد منطقيا بما أن هذه الأخيرة كانت صدرت قبل ذلك بشهور محقّقة نجاحا كبيرا لدى القراء والنقاد، وفاتحة الطريق أمام العديد من التفسيرات في إطار أسئلة كان من الواضح أن كامو سيجيب عليها يوما. وقال كثر: ها هو سيفعل!. ولكن حين قُدّمت المسرحية تبيّن أنها شيء آخر غير الرواية ولا تقلّ عنها أهمية وقوة؛ وتبيّن لهم أيضا، على أية حال، أن القاسم المشترك بين العملين هو استخدام الطاعون فيهما ككناية وليس بكونه وباءً، حتى وإن كان التأويل الوبائيّ في الرواية سيتبدى أكثر عمقا من التأويل السياسيّ الذي طغى على “حالة حصار”. ذلك أن ما تبيّن في نهاية الأمر هو أن كامو سار في البعد السياسي لمسرحيته على خطى كانت رائجة في ذلك الحين: خطى جورج أورويل – في “1984” – ولكن خاصة خطى هانا آرندت التي أكثرت حينها من الكتابة عن النظم التوتاليتارية موجدة تواز عميق بين نازية الهتلريين وممارسات البولشفية الستالينية. أما بالنسبة إلى كامو فلسوف يُتّضح عما قريب أن الطاعون في مسرحيته إنما يرمز إلى كل أنواع الفاشيات في ذلك الحين، من فاشية هتلر إلى فاشية فرانكو في إسبانيا. ومن هنا لم يكن صدفة، كما سيقول الباحثون، أن يجعل أحداث المسرحية تدور في مدينة قادش في مقاطعة أندلوسيا الإسبانية.
الطاعون والموت حاكمين
فما هي هذه الأحداث؟ ببساطة نوع من انقلاب في السلطة يقوم به رجل ضخم الجثة قوي الشكيمة يدعى “الطاعون” يدخل المدينة بشكل مباغت ويستولي على السلطة مجبرا حاكم المدينة على التنازل له. وتصحب الطاعون في حلّه وترحاله، سكرتيرته المدعوة “الموت” والتي لا تقل قوة وقسوة عنه. وما إن يستولي الطاعون والموت على السلطة حتى يأمران بإغلاق أبواب المدينة ومنع الدخول اليها أو الخروج منها. وهكذا إذ حوصر السكان بات التحكم فيهم سهلا… وخلت الشوارع والأزقة فساد الخوف والرعب إلى درجة حلّ معها الصمت محل أي كلام. وفي وقت سيبدو فيه أن العدميّ نادا، الذي كان يؤمن بأن هذا الحدث الكبير من شأنه أن يعزز نظرياته وأفكاره العدمية، قد ارتاح إلى ما يحدث، يبرز على الخشبة طالب شاب هو دييغو (قام بالدور في العرض الأول جان لوي بارو الذي كان من كبار المسرحيين في فرنسا في ذلك الحين وعلى رأس الفرقة التي قدمت المسرحية، إلى جانب زوجته مادلين رينو) يقرّر أن ليس من العدل والوطنية ترك الأمور تسير على ذلك النحو فيطلق شرارة مقاومة سرعان ما تتحول إلى انتفاضة ضد الحاكميْن الطاغييْن. وإذ تتفاقم الثورة مهددة حكم الطاعون والموت يجد هذان أن الأمور تسوء بالنسبة إليهما وقد تحول صمت السكان إلى همهمة غاضبة ثم إلى زمجرة وصخب وبات مصيرهما في مهب الخطر، حتى يلجآن إلى الإبتزاز. فهما إذ يقبضان على فكتوريا، خطيبة دييغو، يقترحان على هذا الأخير صفقة إن لم يقبلها ستُقتل فكتوريا: وفحوى الصفقة بسيط، لكي تُبقى خطيبته على قيد الحياة ويُطلق سراحها، عليه أن يتخلى عن الثورة ويغادر المدينة. لكن دييغو يرفض الصفقة رفضا قاطعا وتكون النتيجة إذ يواصل ثورته أنه يُقتَل. لكن موته لن يضيع هباءً، ذلك أنه يَبعث الحياة والحيوية في فكتوريا نفسها وتواصل هي الثورة مع بقية السكان الذين يتزايد عزمهم وعددهم وقد اتخذوا تضحية دييغو مثلا أعلى لهم.
من الواضح أن هذه المسرحية قد تبدو بلغة اليوم تبسيطية بل حتى سطحية في بعدها المباشر ومعناها السياسي اللذين قد لا يكونان في حاجة إلى تفسير. لكن أهميتها تأتي ضمن إطار الموقف الفلسفي العام لكامو نفسه والذي لم يتوقف عن الدعوة إلى التمرد الفردي كوسيلة للوصول إلى الخلاص. فدييغو هو الآخر أشبه بسيزيف لكنه يتمكن من الوصول إلى هدفه ولو على حساب تضحيته بنفسه من تحويل سقوط صخرته المتواصل والذي يبدو بلا نتيجة، حتى ولو من طريق العمل الجماعي. ناهيك بأن “حالة حصار” أتت في وقت كان فيه الديمقراطيون والتقدميون الإسبان قد اندحروا أمام همجية فاشيي فرانكو. ومن هنا كان واضحا أن كامو يستأنف هنا ما كان أندريه مالرو قد أشار إليه في روايته “الأمل” كما في فيلمه الحامل للعنوان نفسه قبل ذلك بسنوات.
عمل بسيط يجمع الكبار
ولئن كان في إمكاننا هنا أن نتحدث عن نجاح كبير حققته المسرحية، على الخشبة في عرضها الأول، ولا تزال تحققه حتى الآن حيثما عُرضت – ونذكر في هذا السياق عرضا أكثر جدّة لها في العام 2017 في “فضاء بيار كاردان” الباريسي- لا بد من الإشارة إلى عنصر أساسيّ كان له دور في هذا النجاح: عنصر الفنانين الكبار الذي تعاونوا على تحقيقها. فنحن إذا كنا قد ذكرنا مادلين رينو وجان – لوي بارو وبيار برتين بكونهم لعبوا أدوارها الرئيسية، يتعين علينا ألا ننسى أن الموسيقى الخاصة بها كانت من وضع آرثر هونيغر، كما تولى تصميم الديكورات الفنان بالثوس، ناهيك بأن بارو نفسه قام بالإخراج تحت إشراف مباشر من البير كامو، ما جعل رهطا من ألمع الأسماء في فرنسا في ذلك الحين يشتغل وربما في تعويض ملموس على بساطة الحبكة، ولكن مع تعقيد مبدع في أشكال مسرحية استخدمت العديد من عناصر الفرجة بما فيها إدخال السينما على المسرح. وهذا دون أن ننسى الحوارات التي حملت في ثناياها الكثير من المعاني الفلسفية حول شؤون كانت محل تفكير عميق، جماهيريا ونخبويا في تلك السنوات التي تلت انقضاء الحرب العالمية الثانية حيث كانت لا تزال المقاومة ودورها في العالم الحديث في البال، كما كانت تنطرح أسئلة شائكة حول معنى السلطة ودور الجماهير إضافة إلى المقارنة بين دور الفرد ودر الجماعة في التصدي للظلم والإحتلال.
مهما يكن من أمر، حتى وإن كانت “حالة حصار” لا تعتبر اليوم من أعمال كامو الكبيرة، بل حتى لو كان بعض النقاد قد رأوا فيها قدرا من الإنتهازية ولو عبر تسمية الطاغية المحتل بـ”الطاعون” معتبرين ذلك محاولة من الكاتب لاستغلال النجاح الذي كانت روايته السابقة قد حققته، فإن العمل سجل خطوة استثنائية في مسار الكاتب الذي كان يعيش في تلك السنوات ذروة نجاحاته الإبداعية.
نوبل كامو تغيظ سارتر
فألبير كامو (1913 – 1960) الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره في ذلك الحين، ويكاد يكون المنافس الرئيس لجان بول سارتر، كفيلسوف وروائي وكاتب مسرحيّ وناقد، كان قد أصدر في السنوات العشر السابقة والتي تلت مجيئه إلى فرنسا بعد ولادته وسنوات صباه ودراسته التي أمضاها في الجزائر، عددا من الكتب التي أوصلته إلى ذروة المجد المبكر، مثل “الغريب” و”أسطورة سيزيف” و”كاليغولا” و”البررة” و”سوء تفاهم”.. وهي أعمال سوف تلعب الدور الرئيسي في نيله جائزة نوبل الأدبية في العام 1957 – الفوز الذي سوف يقال لاحقا أنه أغضب جان بول سارتر، لمجرد أن سارتر اعتبر أن محكّمي نوبل قد فضلوا كامو عليه إلى درجة أنه بعد سنوات قليلة، حين أعلن المحكمون نيله نفس الجائزة هو الآخر رفضها رفضا قاطعا دون أن يبدي سبب الرفض! بيد أن هذا ليس موضوعنا هنا طبعا- . والجدير بالذكر أن ألبير كامو قضى في العام 1960 بحادث سيارة فيما كان في عز شبابه وعطائه.